سعد عبد الرزاق حسين
ان احدى ميزات حكومة السيد عادل عبد المهدي، هي إتخاذ سياسة وسطية بين الأقطاب المختلفة. وتمتد هذه السياسة للآن الى مجالات متعددة سواء تلك المتعلقة بالمواقف الدولية او الأقليمية او الداخلية. الوسطية هي سياسة الحكومة بين امريكا وايران، كذلك هو الأمر بين السعودية وتركيا وايران، وعلى المستوى الداخلي بين الفتح والاصلاح، وبين الأحزاب الشيعية عموماً وتلك السنية. وليس هناك عيب في مثل هذه السياسة، خاصة وان تبوء السيد عبد المهدي لرئاسة الوزراء جاء نتيجة حل وسط او تفاهم بين القوى الشيعية الأساسية. لكن مشكلة هذه السياسة انها تكون نافعة فقط عند استخدامها لأمد قصير ومحدد، وربما تنفع في الفترة الفاصلة بين مرحلتين متناقضتين او حتى غيرها. ويذكرنا هذا بتاريخنا السياسي الدامي، كيف انتهت فترة حكم عبد الكريم قاسم، الذي اختطى سياسة التوازن بين القوميين واليساريين أواخر مراحل حكمه.
من المعروف عن السيد عبد المهدي بأنه بارع في التوفيق بين الطروحات المختلفة وحتى المتناقضة، إذ يحاول ان يجد النهج المناسب الذي يرضي مختلف الأطراف. لكن واحدة من اهم مهام من بيده السلطة هو اتخاذ القرار المناسب وفي الوقت المناسب لتحقيق اهداف برنامجه السياسي، مهما كلفه ذلك من انزعاج بعض القوى او رفضهم لمثل هذا او ذاك القرار.
وبالتأكيد لا تنفع الوسطية في مجالات الأصلاح، والقضاء على الفساد، وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي تعزيز سيادة الدولة وفرض قوتها على المجتمع، ونبذ المحاصصة السياسية والطائفية، وفي تحسين مستوى الخدمات الاساسية في مجالات الصحة والتعليم والسكن والكهرباء وغيرها، كما انها لا تنفع في خفض معدلات البطالة، والقضاء على الفقر. ففي كل مجال من هذه المجالات المذكورة لابد من اتخاذ قرارات حازمة، ليس من الضروري ان ترضي هذا او ذلك الطرف. فكيف ستعاقب الحكومة احد كبار الفاسدين، إذا كانت تقف ورائه احدى الأحزاب التي ينبغي مجاملتها؟ وكيف ستتم تنمية الأقتصاد، إذا فرض على الحكومة توزيع العقود اللازمة لهذا او ذاك المشروع بحسب المحاصصة؟ ونفس المبدأ سينطبق على كافة مجالات الحياة في المجتمع.
ان الذي يفرض بقاء الوسطية كسياسة للحكومة هي القوى الرئيسية المسيطرة على مجلس النواب وعلى الشارع من خلال مليشياتها ومؤيديها، وهذه لا يؤتمن الى سياساتها لفترة طويلة فقد تغيير نهجها بشكل مفاجيء، خاصة وان رئيس الوزراء لا ينتمى الى احداها. وهناك اليوم حراكاً على مستوى القوائم والإئتلافات البرلمانية، فخرجت بعض الجماعات من بعض الائتلافات وانتقلت الى أخرى، او تحولت الى مستقلة كما تتدعي، ولا تعرف بعد مديات هذا الحراك، إلا انها تنبأ بأن التغير قريب او ممكن.
لقد حظي الأعلان عن تشكيل الحكومة بعد حوادث البصرة برئاسة السيد عبد المهدي بتأييد جماهيري صامت، لم يلبث ان تبددت الأمال فيه، بعد متاهات تشكيل الكابينة الوزارية التي فرضت على الحكومة نتيجة للمحاصصة، وبدا الوضع كأننا عدنا الى نقطة الصفر. ومن المؤكد بأن السيد عبد المهدي وقع حينها امام خياريين: الأول ان يشكل الحكومة على مرامه من وزراء يتصفون بالكفاءة والمسؤولية، الذين لم يكن من الضروري إنتمائهم الى القوى القوية، وهذا بالتأكيد لم يكن مقبولاً من هذه القوى، والثاني هو خيار الوسطية بين الأقوياء، الذي انتهجتها الحكومة لحد الآن.
لا يبدو من خلال الوضع السياسي الحالي المعقد والمتشابك بشكل غير منطقي ان يبقى امام الحكومة من خيارات كثيرة، إلا ذلك الخيار المعتمد على كسب الشارع العراقي لصالحها. ولا يتم ذلك إلا من خلال خطة محكمة وهادئة تتجنب في البداية ازعاج القوى القوية، تعمل من أجل تحقيق مكاسب حقيقية وفعلية لأولئك للمواطنيين العراقيين الذين هم بأمس الحاجة اليها. ويدخل من ضمن هذه الأجراءات تقديم حدمات افضل في مجالات الخدمات، كالصحة والكهرباء والسكن والتعليم وغيرها. وسيبقى توفير فرص عمل افضل وانتقاء الموظفين من خلال مجلس خدمة مؤهل ومستقل من الإجراءات التي لن ينساها قطاع واسع من العاطلين. وسيساهم الأهتمام بالقطاع الخاص بشكل جدي في مساعدة الحكومة في مساعي توفير العمل والخدمات.
وينبغي على الحكومة ان تضع نصب عينها مستقبلاً الكيفية التي تحول بها الدولة العراقية الى دولة حديثة، وأن تخرجها من خانة الدول الفاشلة. وقد لا ترضي هذه المهمة بعض الكيانات القوية حالياً، ذلك ان احدى اهم اسباب فشل الدولة تعود لسيطرة تلك الكيانات لسنوات طويلة على السلطة والنفوذ. ويتم هذا من خلال تقويم مؤسسات الدولة الأساسية : التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث تعمل بالشكل الاحترافي المستقل، وإنجاز مهامها الادارية والتنظيمية اللازمة لضبط الناس والموارد، وتحفيز طاقات الجهاز البيروقراطي والقوات المسلحة والأمنية. كما ينبغي على الدولة من احتكار الأستخدام الشرعي للعنف، من خلال التخلص من كل الجماعات المسلحة التي تسير وفق اجندات خاصة بها، وان لا تتحول أراضي البلاد الى ملجأ للعناصر الخطرة كأمراء الحرب والجماعات الارهابية. كما ينبغي على الدولة تخفيف الصراعات الداخلية، وتوفير الأمن والسلامة للمواطن، ومساواة الجميع امام القانون. واخيراً ان تتمكن الدولة من بسط نفوذها على اراضيها وعلى شعبها، وحماية حدودها وتأكيد سيادتها الوطنية.
واذا اعتبرنا الوسطية هي سياسة مفروضة على الحكومة بحكم الظروف الحالية، فينبغي التفكير منذ الآن في إمكانية تخطيها والوصول بالبلاد الى سلم النجاة، وإلا سيبقى المستقبل امامنا غامض ومظلم.