بعض ما وثقته الكاتبة حياة شرارة في كتابها (صفحات من حياة نازك الملائكة)
أنهى ابنها البراق مرحلة الدراسة المتوسطة في هذا العام. وكان يشبه أمه في حبه للموسيقى ولأغاني، فكان يجيد العزف على الأرغن، ويعزف كل ما يسمعه دون حاجة إلى اللجوء إلى النوتات. وكانت نازك تشرح له أهمية النوتة للفنان ولا يوافقها الرأي، فتسأل الله أن يهديه إلى سواء السبيل. وقد ساعده ولعه بالأغاني الغربية على حفظ المئات منها مما كان له تأثيره الكبير في أن يتكلم الأنكليزية بطلاقة. وكانت نازك مرتاحة لعدم إندفاعه وراء مظاهر المدنية الأوربية التي تبهر معظم الشباب العرب. وقد شعر بالنفور من فساد الشباب وإقبالهم على شرب الخمرة والعلاقات الجنسية التي لا تقوم على رابطة الزواج. وقد دفعه كل ذلك إلى التمسك بالدين وأداء الصلاة وأخبر أمه أنه سيصوم شهر رمضان وهو في إنكلترا ليترك انطباعاً طبياً عن المسلمين في المجتمع الانكليزي الذي يعيش فيه.
كانت نازك تتوق إلى حج بيت الله. فقد حجت في غير وقت الحج، غير أنها لم تكن لتكتفي بالعمرة. وكانت تعرف ان الحج شاق بل ورهيب. فقد قال لها زوج أختها بعد ان حج انه نجا من الموت وكتبت له حياة جديدة. وقد سمعت مثل هذا الكلام مع معظم الذين ذهبوا إلى الحج. وكان زوجها يختار العمرة وحدها ولا يقبل ان يذهب في وقت الحج بسبب شدة الزحام الذي لا يطاق. وبقيت نازك تتحرق إلى الحج، غير انه ظل أمنية من الأماني التي لم تتحقق لحد الآن.
في صيف عام 1978 مع بدء العطلة سافرت نازك مع زوجها وابنها إلى يوغسلافيا لغرض الاستجمام وإجراء بعض الفحوص الطبية. قضوا بضع ساعات في العاصمة بلغراد ومنها توجهوا إلى مدينة موستار بالقطار. وكان الطريق الذي يمر به القطار رائعاً بأشجاره الخضراء وأنهاره وجباله، ولكن ها هو ذا الظلام يهبط ويلف البسيطة بعتمته ويحجب جمال الطبيعة عن الناظرين ولذلك لم تستطع نازك ان تتمتع بطبيعة إقليم البوسنة التي اخترقه القطار في الليل.
أترع روحها جمال مدينة موستار (مركز ولاية الهرسك) فهي تقع في وادٍ يجري فيه نهر، ماؤه أزرق زرقة مياه البحار، خلافاً لما هو مألوف في الأنهار. وهو إلى ذلك يتدفق بقوة كبيرة وتتخلله الشلالات والصخور الكبيرة أحياناً، وتخف الجبال الشاهقة ذات الأشجارالخضراء بالمدينة التي وجدتها نازك كالمدن السحرية في روعتها. ونزلوا في فندق بريستول وهي من فنادق الدرجة الأولى، وكانت غرفتهم تطل على النهر وقد أسعدها جمال المناظر الخلابة التي تراها من النافذة.
لم تفتن الطبيعة وحدها نازك وإنما أعجبها الناس. فقد صادفت في القطار شخصين مسلمين كانا جالسين في المقصورة، وما ان تكلمت بالعربية حتى قال أحدهما بحماسة (السلام عليكم) وكانا ودودين وغاية في اللطف والرقة. سُرت نازك في موستار وهي تلتقي بالمسلمين الذين تتلقى منهم دعوات كثيرة لمجرد معرفتهم بأنها عربية. وعندما يلبون الدعوة إلى بيت من البيوت كان الجيران يأتون ويتجمعون حولهم وكأنهم ظاهرة جميلة فريدة من نوعها، معربين لهم عن عواطفهم وحبهم، وكانوا يكرمونهم أشد الكرم، وقد سعدت نازك بذلك وتأثرت تأثراً كبيراً لدرجة أنها كادت تبكي.
مع حلول الثمانينات بدأت نازك تقل في كتاباتها، فلم تعد حالتها اصحية تساعدها على الكتابة. فالحبوب المهدئة التي تتناولها كانت تؤثر على نشاطها الأدبي. صارت حتى كتابة الرسائل التي كانت تكتب العشرات منها إلى أخواتها تجد صعوبة منها وتؤجلها دائماً. كانت تكتب رسائل طويلة مفصلة وتراسل حتى أخوالها وصديقاتها، ناهيك عن أهلها، غير أنها تجد نفسها الآن وقد فقدت تلك القدرة على المراسلة العزيزة المستمرة، وصارت تجد عنتاً في الرد على الرسائل التي تتلقاها من مريدها ومن الذين يكتبون عنها ويطلبون مساعدتها. وكانت المظاريف تتراكم على مكتبها ويمر العام وهي لا تكتب ردوداً.
كانت نازك تفكر في الاستقرار ببغداد بعد ان تنتهي من العمل في جامعة الكويت. ولم تكن تمللك داراً تسكن فيها، في الوقت الذي أخذت ترتفع فيه أسعار الدور بوتائر سريعة مذهلة، مما بعث القلق فيها.
كان عندها قطعة أرض في حي (المعتصم) بنت فيها بيتاً صغيراً (مشتمل) ولكن جرى توسيع في مطار المثنى القريب من أرضهم واستملكت الدولة بيتهم وألحقت أرضه بالمطار. وقد تسلمت نازك تعويضاً مالياً جيداً عن البيت المستملك وأرادت ان تبني بيتاً في قطعة أرض تقع على شاطئ دجلة في حي الدورة.
وفي عام 1981 اشترت داراً واسعة في حي العامرية ذات حديقة جيدة الحجم في قطعة أرض تبلغ مساحتها ستمائة متر. لا شك أن هذا البناء واسع على عائلة صغيرة وخصوصاً أن إبنها البراق كان يدرس في أميركا. وقد سكنت فيه هي وزوجها عندما عادت إلى العراق في نهاية الثمانينات واستقرت في بغداد في منطقة العامرية.
تقضي معظم وقتها في البيت وتقوم بزيارات قليلة إلى أخواتها، غير انها تتردد أكثر على بيت أختها لبنى القريب من حيهم وتستأنس بحفيدي أختها الصغيرين وتداعبهما. ومازال العود أنيسها عندما تضجر فتعزف عليه وتغني. وتقضي شطراً من وقتها في المطالعة ومشاهدة التلفزيون.
- كتاب صفحات من حياة نازك الملائكة)ص 209 .