بوجمعة أشفري
أعمالُ الفنانة التشكيلية اللبنانية آني كوركدجيان مُستفزة، يتمحور موضُوعها الأساسي حول الشكلِ البشري الذي يتم التلاعبُ بأجزاء جِسمه، بتقطيعها، بتَحبيطها، ببَسطِهَا، بتمطيطِها أو تَحجيمِها، ومن ثَمَّ طلائها باللَّون. أعمالها مُستفزة لكنها لَهَوِيَّةٌ مَرحَةٌ تشُوبها سخريةٌ حادَّةٌ، تعمدُ إلى توصيفِ الجزءِ العنيفِ والغريبِ لدى الكَائنِ البشري.
تتراوحُ لغتها التشكيلية بين التعبيرية والسوريالية، دُون السُّقوطِ في التهويمِ والالتزام. التراجيديَا والعبثية مُتقابلتان، مُتمازجتان، حاضِرتان في كلِّ مكانٍ من عملها. التجاور ما بين الألوانِ الدقيقة التي تستعملها والرسالةُ التي تحاول إيصالها، جَلِيَّانِ للأبصَارِ باقتِدارِ إبداعيَّةٍ مُدهِشةٍ.
لا تتغيَّا كوركدجيان إعجابَ الجمهور والخضوعَ إلى ما يريدهُ هو، بل إنها تميلُ إلى الاستجابةِ لندائها الداخليِّ وما تُمليهِ عليها اللحظةُ الإبداعيةُ بكلِّ جرأةٍ وبمطلقِ الحرية. ولهذا قال عنها الناقد الفني اللبناني جُو طَرَّابْ: «منَ النادر، في لبنان، العثورُ على عملٍ فنيٍّ مكثف إلى أقصى درجةٍ، مثلَ عَملها ذي التأثير البصريِّ المُثيرِ للانتبَاه.. تجربتها الصادقةُ، أو على الأرجح الصادمة، تمنحُ لعملها بعدا آخرَ يُعادلُ العلاجَ النفسي التلقائي».
في معرضِ حديثها عن تجربتها الموسومة بـ «مونودراما»، صرحت كوركدجيان قائلة:
«تتراوحُ لغتها التشكيلية بين التعبيرية والسوريالية، دُون السُّقوطِ في التهويمِ والالتزام. التراجيديَا والعبثية مُتقابلتان، مُتمازجتان، حاضِرتان في كلِّ مكانٍ من عملها» «مواضيعي هي: مَرضى السِّفِليسْ، ملوكٌ حمقى، دُمى، مُصابون بقَرقَرَةِ البَطن، باصِقو دماء، البَابَا، استمنَاءُ رَجلٍ بدينٍ، أحمقٌ يَعُضُّ بَطَّةً، مساجينٌ ورجلٌ، امرأةٌ بقبعةٍ مُوشَّاةٍ بمربعاتٍ تتجَرَّأُ على إلقَاءِ نظرَةٍ عبر الزاويةِ الغريبةِ لكتفيها المَائِلتينِ.. عموما، إنها «عربَدَةُ بيروت». هناك أيضا أنا- نفسي؛ امرأةٌ تنمُو إلى ما لا نهاية في الزمانِ والمكانِ، مثلَ خيطٍ مَرِنٍ يَرتَدُّ فجأةً إلى نفسه. أعمالي الفنية هي أسلوبي، هي أنا – نفسي (أو ما أزعمُ أَنِّي)، هي الجِلْدُ الذي أحيَا داخلهُ، هي إقامتي في الجَحيم، هي خلاصِي، فِردَوسِي».
تَعتبرُ آني كوركدجيان التصوير الصباغي وسيلةً لحمايةِ النَّفْسِ، لترويضِ الألم، لإنعاشِ الحياةِ في الجسد. تشعرُ، وأنتَ تتأمل كائناتها، كأنَّ عنفا خفيًّا يندفعُ باتجاه الجِلد الذي يحجبُ اللحم، ليوحي لك بما يشبِهُ مواقفَ تعذيبِ النَّفس، بَتْرِ الأعضاءِ، إدخَالِ/ دَسِّ اللحمِ في اللحمِ… شحناتٌ انفعاليةٌ كامنةٌ في ما يبدُو أنه تَشوُّهات عضوية. وفجأةً تتراءى لك، في هذا العمل أو ذاك، عينٌ فارِغةٌ تُحدِّقُ فيك؛ لينتابك، حينها، شعورٌ بأن الجسَدَ بدأ ينفرُ من أعضائه، يتخلى عنها، يُعيد تركيبها في مواضعَ أخرى غير التي كانت فيها.. فراغُ العينِ «يَعدِمُ البرَّاني والجوَّاني».. تطفو العينُ الفارغةُ على السطحِ؛ تنتفي المسافةُ بينَ منْ يَرى ومنْ يُرى… جسَدُ منْ، إذًا، هذا الجسدُ الذي ينزعُ عنه أعضاءَهُ، يَتَمَطَّطُ، يَرتَدُّ إلى نَفْسِهِ، يقفُ على حَافة الفراغِ؟!
عينُ الفَراغِ تُحدِّقُ في عَينِ الجسدِ. يتكدَّسُ اللَّحمُ. هل آني كوركدجيان تمارسُ عملية طَيِّ الجَسدِ ثمَّ إعادةِ بَسطِهِ/ تمديدهِ على سطح طاولةٍ أو عُمقِ سَنَدٍ Support؟ الطيُّ في الداخِلِ، الطيُّ في الخارِجِ، ما هُمَا سِوى إظهَارِ ما يكمنُ داخلَ كينُونةِ الجَسدِ. لذلك تتزيّا كائنات كوركدجيان الآدمية بحُجُبٍ لونيَّةٍ جليلةٍ Sublimes لا تَكادُ تبينُ. تصيرُ كائناتها مثلَ مقاطعَ شعرية مَكسوَّة باللحمِ تنتمي إلى عالَمٍ افتراضيٍّ، «تُقيمُ في مَا وراء الجِديِّ، في ذاكَ المجَال الأصلي الخُصوصيِّ، الذي هُو: الطفلُ، الحيوانُ، المتوحشُ، الرؤيوي؛ وكذلك في حقلِ الحُلم، الانذهالِ، النَّشوةِ، الضحكِ».
كأنَّ وضعيَات كائناتِ الفنانة آني كوركدجيان توحي بِعدمِ الاكتمالِ، بأنْ ليسَ ثمَّةَ ما يَكْفِي في هذا الجسَد أو ذَاك… أو لكَأنَّها تصرخُ: «إنِّي أولدُ من جَديد»! إذ معَ كلِّ رمشةِ جَفنٍ، داخلَ فضاءِ العملِ أو خارجهُ، يندسُّ شيءٌ ما تحتَ البَصر، يَمنحُ العينَ إمكانيةَ استبصارِ النَّسيجِ اللحميِّ للرَّحِم وهو فِي أشدِّ حالاتِ الانتشاءِ بالعَودِ الأبديِّ للخَلقِ.
وها هُو اللحمُ الكامنُ في أعمالِ آني كوركدجيان يصيرُ لحمِي وآخَري. آخَري «الذي ليسَ
«تشعرُ، وأنتَ تتأمل كائناتها، كأنَّ عنفا خفيًّا يندفعُ باتجاه الجِلد الذي يحجبُ اللحم، ليوحي لك بما يشبِهُ مواقفَ تعذيبِ النَّفس، بَتْرِ الأعضاءِ، إدخَالِ/ دَسِّ اللحمِ في اللحمِ» مَجبولا إلا من طِينتي: فألوانهُ، وألمهُ، وعالمهُ، من حيثُ هيَ خاصةٌ بهِ على وجه التدقيق، كيف لي أن أدرِكها ما لم يكن ذلك بناء على الألوانِ التي أراها، والأوجاعِ التي كابدتها والعالمِ الذي أحيا فيه؟ على الأقل عالمي الخاص، كَفَّ عن أن يكون لي وحدي، إنه الآن الآلة التي يعزفُ عليها آخرٌ، إنَّه سَعَةُ حياةٍ معمَّمة انزرعتْ في حياتِي»(١).
*هذا النص تداخلت فيه الترجمة مع الكتابة (ثلاثة مقاطع من هذا النص مقتطفة من موقع الفنانة آني كوركدجيان عالجتها بالتأويل والحذف والإضافة).
(١) موريس ميرلوبونتي، المرئي واللامرئي، ترجمة عبد العزيز العيادي، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ٢٠٠٨، ص. ٦٣.