لا يتناطح كبشان على دور المعرفة والمعلومة فيما وصلت اليه سلالات بني آدم، من رقي وازدهار في عالم تتبارى اممه الحرة على تطوير ما يعرف بـ “اقتصاد المعرفة”. حقيقة تتعارض مع ما وضعناه عنوانا لعمود اليوم، لكنها لا تنفي صحته في المضارب التي اغتربت وانقطعت طويلاً عن كل ما له صلة بالصرخة التي قوضت العالم القديم “تجرأ على استعمال عقلك” والتي صاغها عمانوئيل كانط تتويجاً لمشوار طويل ومرير من الابداع الذي خطته قوافل الاحرار والمفكرين من شتى الشعوب والامم، ومنها ممثلي الصفحات المشرقة من تاريخنا القديم (العقلانيون) والمسكوت عنها بعد هيمنة قوارض المنعطفات التاريخية، والتي وضعت هذا العنوان على رأس أولوياتها، والذي انعكس على أرض الواقع بارتكاب أبشع الجرائم والانتهاكات، بحق أفضل ما انجبته هذه البلدان من شخصيات كرست كل ما تمتلكه من مواهب وعقول خلاقة، لأجل الوصول الى المعلومة الدقيقة والمعرفة البعيدة عن اصطبلات الترويض والتدجين. يقول عالم المستقبليات الفين توفلر في تعريفه للأمية، والمنسجم مع حاجات عالم اصبح فيه عمر المعلومة أقصر من عمر الفراشة بأن “الأمية هي عدم القدرة على الفهم”. عندما نستعين بمثل هذا التعريف لتشخيص حالتنا الراهنة المثقلة بـ “عدم الفهم” لا لما يحيط بنا من تحولات وزحزحات هائلة وحسب، بل لما مر علينا من كوارث وحوادث وأهوال؛ سندرك حجم ونوع الأمية التي نتخبط وسط امواجها المتجددة عند مفترق الطرق.
خير دليل على دقة وديناميكية التعريف الذي اشرنا اليه؛ هو ما نعيشه من مفارقات وفضائح معرفية وقيمية، حيث تتزايد اعداد حاملي الشهادات “العلمية” والعناوين ونراهم يجرون وراءهم ذيول متضخمة من السيفيات المثقلة بالانواط والدروع والنياشين والفتوحات… من دون ان تترك ادنى أثر على الصعيد العملي وحال البشر والشجر والحجر، حيث يشارك ويتصدر الكثير منهم ماراثونات الهرولة صوب المنطقة الخضراء، وغير ذلك من جوائز وأسلاب حقبة الفتح الديمقراطي المبين. غالبيتهم لا يعيرون أدنى أهمية لما مر علينا من أهوال وما دونه القتلة واللصوص وكتبة الطغاة والسلاطين من مدونات وسرديات وعقائد، جعلتنا نتصدر قائمة سلالات بني آدم بـ “عدم الفهم” والتحسس بكل ما يتصل بـ “المعلومة” من صلة، كما لا يخفي الكثير منهم حماسته لتزويق تلك “المآثر” والدفاع عنها، تقليدا لصرخة اخرى لا علاقة لها بالمغفور كانط تقول “اشهدوا لي عند الأمير” عسى أن يتذكرهم في جوائزه وولائمه.
أما لماذا تعد المعلومة رأس كل جريمة لدينا؟ فالجواب نجده عند من تلقف مقاليد أمور عراق ما بعد “التغيير” وما يمكن أن تفعل بهم وبسطوتهم وتغولهم وبالالقاب والعناوين التي منحوها لانفسهم ومن يتجحفل معهم بلصوصية وشعوذة واجرام، بحق حاضر ومستقبل هذا البلد المنكوب بالحرمان الطويل والمزمن منها (المعلومة الصحيحة غير المزيفة). فمن دون مناخات ومؤسسات وفرامين تحرس الاكاذيب والأضاليل، وترسخ مشاعر الخوف والرعب والتردد بين عيال الله؛ ستكون اقطاعياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مهب الريح، كما انها ستقوض حصنهم الحصين (الوصاية) وستنقل المحشورين بحضيرة الرعية الى حيث المواطنة والحقوق والتشريعات التي أكرمت الانسان من دون تمييز على أساس “الهويات القاتلة”. وهذا ما لا تطيقه القوافل التي أدمنت على قات العبودية والتبعية والخنوع…
جمال جصاني