يوسف عبود جويعد
يسجل للروائي ناهي العامري وبخطوات جريئة وصريحة ، ومن خلال روايته (نذير الدرويش)، سبقاً مهماً في عالم السرد،لأختياره لثيمة وأحداث تدخل في صميم حياتنا المعاصرة، الا وهي التظاهرات التي إنبثقت بعد التغيير، وصار لها مكان معلوم لدى الجميع في ساحة التحرير، أمام نصب الحرية وما تكتنف حياة التظاهر من غموض وأسرار، واحداث وحكايات، تحدث خلف الكواليس، وهي حالات تأخذ جانباً من الأهمية،وقد إستطاع الروائي ومن خلال المتابعات الميدانية المستمرة، ودخوله خضم هذه التظاهرات التي تهتف بإحقاق الحق، وخلق المساواة والعدالة بين ابناء الشعب، لذلك فإن طالب بطل هذا النص، هو صحفي ومكلف بتغطية تلك المظاهرات وتزويد الصحيفة بكل مايحدث فيها،وقد إختار لها زاوية نظر موفقة، إذ أن الاحداث تبدأ من إنهيار بطل هذا النص وأصابته بحالة من الهستيريا والهلع والخوف، وحالة تشبه الجنون، وهو يردد:
( أغيثوني، أدركوني، إنهم ورائي، أخذوا بخناقي) ص 10
وفي هذا ما يحفز المتلقي، لمتابعة سير العملية السردية، للوقوف على حالة طالب ومعرفة الأسباب التي أوصلته الى هذا الحد، وما حكايته.
كما إننا سوف نجد التداخل المركب في عملية سرد الاحداث، حيث سيكون معنا سارد خارجي مهمته وصف الأحداث الخارجية، وتطور حالة البطل، ثم ننتقل الى السارد الداخلي وهو طالب الذي يقوم بمهمة إدارة دفة الأحداث، من خلال الجلسات العلاجية والنفسية الذي يقوم بها طبيبه للوقوف على حالته:
( كرر سؤاله بصوت عال : من هم ؟؟؟
صمت وعيناه ظلتا مبحلقتين صوب مكان الصوت الآمر، وبعد لحظات وجيزة تمتم بحشرجات دفعت مزيداً من الزبد على أطراف فمه:سحر.. وحماية الرئيس..والزعيم..) ص 11
وقد قسم فصول هذا النص، بين الجلسات العلاجية التي يكون فيها طالب هو السارد للاحداث التي حدثت والتي أدخلته الى مسشفى أبن رشد، وهو مشفى يعنى بالعلاج النفسي، والادمان على المخدرات، وفصول أخرى حملت عنوان خارج المشفى، وهي تخص السارد الخارجي الذي يحيطنا علماً بما يدور خارج المشفى من أحداث تدخل ضمن متن النص، وبالرغم من فواصل العناوين للفصول الا أن أنها متصلة بنسق فني متصاعد عبر السياق الفني الصحيح للادوات التي تدخل ضمن الاحداث، التعريف، الحبكة ، التأزم، الأنفراج، فلم تكن مهمة الطبيب المكلف بمعالجة طالب الصحفي، هي من أجل خلاصه من حالته فقط،وأنما هي حالة مهمة اكمال دورة الاحداث،ولأكتشاف هذا الغموض والأسرار والحكايا والاحداث التي ترافق حالة التظاهر، من يقودها؟.. كيف تسير؟.. والمطالب التي يبغونها، والهتافات التي تصدح مطالبة بتحقيق العدالة والامن والأمان، ثم نتوغل أكثر لنعرف أن هناك أياد وأفكار وقيادات تزج وسط هذه التظاهرات لا تمثل المطالب الحقيقية التي إنبثقت منها تلك التظاهرات وأنما هي حالات شائبة لتشويه نزاهة هذه الطقوس المهمة، والتي تعتبر تعبير حقيقي عن صوت الشعب المظلوم، ونكتشف أيضاً أن هذا الصحفي طالب قد أكتشف أمور خطيرة جداً تستحق الاهتمام والكتابة عنها،وأهمها إكتشافه لسر خطير حول تلك الهبة التي ظهر فيها الرئيس وهو يوزع سندات التمليك:
( عدت أقحم صمت الشيخ بسؤال ثان: كيف لم تشملكم الهبة وأنتم أصحاب الحق بها؟
فأقترب مني هامساً: إستاذ، نحن أصحاب مبادرة تمليكنا هذه الأرض التي أمامك، روجنا معاملات تقطيعها وتوزيعها، بيد أننا لم ندع لذلك الحفل البهيج الذي رأيته بأم عينيك على شاشة الفضائية الوطنية)ص 73
لنكتشف أن العملية مفبركة، وأن المهندس المقرب له، هو الذي أوكل أمر تدبيرها لزمرة من اتباعه السماسرة والنخاسين والطفيلين) ص 73
لقد سعى الروائي في هذا النص، الى خلق حالة من التفاعل الصادق بين الكاتب – النص – المتلقي، كونه إستطاع أن يقدم لنا شخصية الصحفي طالب وهو يحمل القيم والمثل والمبادئ الصادقة، وهو يحاول جاهداً إثباتها وخلق حالة من التغيير قدر إستطاعته، وذلك برسم ملامح شخصية للصحفي المثالي الذي لا يتوانى عن التضحية والإيثار لكشف كل ما من شأنه خللت عملية التوازن الطبيعية لحياة قويمة يسودها الحب والوئام والامن والامان،وذلك نابع من تربيته لأنه لم يتلوث بهذه التشوهات والشوائب وحالة الفساد التي إجتاحت البلاد، ولم يرتكب خطيئة مع انثى، فنجد حالة الاندهاش والتعجب والذهول الغريب الذي يصاب به عندما يتفاجأ بهذا الكم الهائل من الخراب، وقد كانت مهمته في إعداد تحقيق عن حياة البغايا والاسباب التي إدت بتلك النسوة الدخول في معترك هذه الحياة القذرة، وقد إستطاع الثبات أمام مغريات الغانية أمينة، ومحاولتها إيقاعه في براثن الخطيئة الا أنه إستطاع اقناعها بأنه جاء من أجل مهمة كشف هذا الحياة،ثم ننتقل الى مهمته الرئيسية وبؤرة الاحداث وثيمة النص، وهي مهمته للكتابة عن تلك المظاهرات:
( فكان اول من لفت نظري وأنا منحدر من على سنام جسر الجمهورية بإتجاه ساحة التحرير ثمة جموع المتظاهرين الذين إعتادوا على مزاولة طقسهم بهتافات ناقمة وشعارات تطالب بحقوقهم المسلوبة، شاهرين بيارق دولتهم العتيدة ورايات مدنهم الفاضلة التي يسعون لتحريرها من اغلال الغبن والفساد.. وكلما تقدمت بخطواتي ارتفع صهيل الاناشيد… وخطوة وراء خطوة وجدت نفسي وسط الحشود وهي تزأر، درت دورة كاملة في مكاني مأخوذاً بالزهو الذي اعترى الجميع)ص77
الا أن ما أود الإشارة اليه هنا، والذي هو بمثابة حالة تنبيه الى صناع الرواية، أن اللغة السرديةالتي إختارها لسير العملية السردية، تمر بحالة إختلال في عملية الإنسيابية والإيقاع المتزن الذي ينسجم ومسار العملية السردية، بسبب إختياره الى لغة لا تتلائم والسياق الفني لهذا النص وتكون أشبه بالاستعراضية أو المتكلفة أو الانشائية من تلك التي يدون فيها الطلبة كتاباتهم الإنشائية، وانني أرى أن الروائي لم يكن إختياره موفقاً الى تلك اللغة.
ونتوغل أكثر لسبر أغوار هذه الطقوس البهية الاصيلة، وحياة الجماهير الغاضبة التي تهتف مطالبة بحقوقها، لنكتشف الاسرار وبعض الخبايا التي تسود هذه التظاهرات، ويتعرف الصحفي طالب على سحر وهي صحفية وناشطة مدنية تعيش وسط هذه المظاهرات وتكتب عنها، ومن خلالها يتعرف على الزعيم الذي تكون مهمته تنظيم المظاهرات وشد حماس المتظاهرين بهتافات صارخة وحل المشاكل التي تشكل عائق في مسيرة المظاهرات، ولم يكن نزيهاً الى الوثوق به في هذه المهمة، ومن هنا تبدأ خيوط المؤامرة والخديعة تحاك ضد الصحفي طالب، وهي مؤامرة حيكت بليل من أجل كتم صوته، وتهميشه وقتل معالم السمات التي تحلى بها، فيقع فريسة لحب سحر التي كانت ضمن خيوط المؤامرة، وبينما يتعمق لمعرفة بعض الحقائق وسط تلك المظاهرات،كانت خطة الايقاع به تنسج بحبكة عالية، فقد إستطاعت سحر السيطرة على حواسه وصار يحبها الى حد أنه لا يستطيع فراقه، ويظل يفتش عنها ضمن المتظاهرات اذا صادف ولم تحضر، ووقع بالفخ الكبير وفي المصيدة التي اعدت له من خلال سفرة الى السليمانية في شمال العراق، فقد شاءت الصدف الغريبة والتي اندهش بها حد الذهول وكانت غايته ومناه، هو ان تسكن سحر في الغرفة التي اختيرت له، ومن هنا تتم عملية غسل دماغه وإيقاعه بالخطيئة والرذيلة، ومعاقرته للخمر:
( أحسست بلسعة كهربائية حين مس نهداها المتوبان صدري، تشهقت انفاسها المتلاهثة، وبطرف شفتي لعقت من شهد لماها، فحدث انجذاب هائل والتحمنا بقبلة طويلة، شددت من قيدي ورفعتها عن الارض ثم طرحتها على سريري، وراحت أصابعي فوراً تعمل على فك ازرار قميصها) ص 156
وهكذا بدت له تلك العلاقة وكأنه وسط جنة، ولم يكن يعلم انها جنة مزيفة من أجل قتل معالم الجمال وصوت الحق داخله.
وبعد العودة الى بغداد تسوء حالته الصحية لعدم عثوره على سحر التي كانت تتذرع الحجج حتى لا تراه، فتزداد معاقرته للخمر، ويلجأ الى تعاطي المخدرات، فتهبط عزيمته ويقل حماسه، ولم يعد يمارس نشاط الصحفي كسابق عهده وتعرض الى انذاربالفصل من قبل رئيس تحريرها مالم يعود لسابق عهده،حتى أنه وفي احد الليالي وأثناء عودته وهو ثمل جداً ويترنح في مشيته يميناً ويساراً، وعندما يراه احد الحراس يصب عليه دلو ماء بارد، عندها يصاب بالذهول وحالة من الهستيريا حد الجنون، فينقل على أثرها الى المشفى للعلاج.
وبعد العلاج يعود الى حالته الطبيعية:
( لم يشأ طالب ان يخبر سامح بأنه إزداد إصراراً على معاودة تحقيقه في هبة الرئيس، ذات الاراضي السكنية!، يحدوه أمل بالا تكون مهمته عسيرة حين البحث عن الدرويش كي يكون طرفاً خطيراً في هذا التحقيق) ص 205
رواية (نذير الدرويش) للروائي ناهي العامري، خطوة جديدة تدخل ضمن عالم الحداثة وحياتنا المعاصرة، وهي جريئة وصريحة وتكشف الكثير من المسكوت عنه في العهد الراهن.
من اصدارات دار امل الجديدة طباعة – نشر – توزيع – سورية – دمشق لعام 2019