في استطلاع للرأي
منقذ داغر
أثارت نتائج الانتخابات العراقية التي أجريت في أيار/مايو 2018 مفاجأة الكثيرين خاصة المتخصصين في مجال استطلاعات الرأي. فقد تنبأت سلسلة من استطلاعات الرأي العام بين شهرَي آذار/مارس وأيار/مايو بفوز «ائتلاف النصر» الذي يرأسه رئيس الوزراء حيدر العبادي بالعدد الأكبر من المقاعد في البرلمان العراقي. إلّا أنّ «تحالف سائرون» و»تحالف الفتح» تفوّقا على لائحة العبادي بحيث فاز الأول بأكبر عدد من المقاعد النيابية وحلّ الثاني في المرتبة الثانية من بعده.
وفيما يرجّح أن تكون نتائج الانتخابات قد تعرّضت للتزوير، إلا أن النتائج لا يمكن تبريرها بالتزوير فقط. ففي البحث الذي أجريته بعد يومين من الانتخابات، تبيّن أن نتائج الانتخابات نجمت عن تفاعل أربعة عوامل مختلفة وهي: تدني إقبال الناخبين والرغبة في التغيير واستراتيجيات الحملة الانتخابية للمتنافسين وموقف المرجعية الشيعية الدينية من المرشحين.
منذ أول انتخابات أجريت بعد سقوط نظام صدام، تراجعت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع في الانتخابات المتتالية. ففي عام 2005، شهدت صناديق الاقتراع إقبالاً بنسبة 80% من الناخبين العراقيين، بيد أن هذه النسبة تراجعت إلى نحو 60% في انتخابات عام 2010 وعام 2014 لتعود وتنخفض مجددًا إلى 44.5% عام 2018. وبسبب انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة، كان للأصوات المتأرجحة أثرٌ ملحوظ على نتائج الانتخابات. واستفاد من هذه الظروف «تحالف سائرون» المنتصر الذي فاز بنسبة 30% من الأصوات المتأرجحة، فيما لم يحظَ «ائتلاف النصر» إلا بنسبة 15% من مجمل تلك الأصوات.
وبحسب استطلاع للرأي الذي أجري على كامل الأراضي العراقية بعد صدور نتائج الانتخابات، فإن 50% من الناخبين الذين صوّتوا لصالح «تحالف سائرون» لم يتخذوا قرارهم بشأن الجهة التي سينتخبونها إلا في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات. ولذلك من المنطقي الاستنتاج أن نصف ناخبي «سائرون» في الأقل ليسوا من الأنصار الثابتين لهذا التحالف، لا بل إن الكثيرين منهم هم في الواقع علمانيون غير إسلاميين.
إذًا ما سبب خيار هؤلاء الناخبين؟ بمعنىَ آخر، لماذا فضّل هذا الكم الكبير من الأصوات المتأرجحة «تحالف سائرون» على الكتلة الحاكمة؟ يبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة تكمن في استراتيجيات الحملة الانتخابية التي اعتمدتها شتى الكتل السياسية في الفترة التي سبقت الانتخابات.
فـ»ائتلاف النصر» مثلاً ركّز حملته على أداء العبادي خلال توليه منصب رئاسة الحكومة وعلى صورته كرجل دولة. ومع أن العبادي حقق فعلاً إنجازات كثيرة خلال هذه الفترة، إلا أن العراقيين يميلون إلى التشكيك دوماً في الدولة ومسؤوليها. أضف إلى ذلك أن الفساد قد أدّى دورًا حاسمًا في قرارات عدد كبير من الناخبين العراقيين خلال هذه الانتخابات. إذ تبين أن حملة العبادي التي ركزت على مكافحة الفساد أضرت به ليس لأنه سياسي ومنخرط في الشؤون السياسية منذ سقوط النظام السابق فحسب، بل أيضًا بسبب اعتقاد الناخبين أنه لم يبذل كرئيس حكومة جهودًا كافية للتخفيف من حدة المشكلة. وفي هذا السياق، ربما يمكن القول إن المساعي التي بذلها العبادي لمعالجة هذه المسألة خلال حملته الانتخابية جاءت متأخرةً ودون المستوى المطلوب. بالتالي، من الممكن أنّ استراتيجية الحملة هذه التي تمحورت حول خبرة العبادي كانت غير فعالة، لا بل حتى مضرّة.
وفي الوقت الذي حاولت فيه حملة «ائتلاف النصر» استقطاب الناخبين عبر التركيز على الماضي (النصر على داعش)، آثر «تحالف سائرون» الذي يرأسه رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر أن يجعل من فكرة التغيير محورًا لحملته. فتحالف مع «الحزب الشيوعي» وناشطين أخرين من المجتمع المدني لتشكيل لائحة نجحت في استقطاب الناخبين العلمانيين الذين يتبنّون مع ذلك قيم ومبادئ إسلامية. وبالطبع، فقد ساهمت حملة ائتلاف النصر المضللة أيضًا في نجاح تحالف سائرون.
ومع أن التركيز على التغيير ربما يكون قد جذب الكثير من العراقيين لانتخاب قائمة سائرون، إلا أن ذلك لم يكن السبب الوحيد لفوزها، فقبل الانتخابات، كانت المرجعية الدينية الشيعية العليا في النجف قد حذرت الناخبين الشيعة من إعطاء أصحاب السلطة فرصةً ثانية، وجاء هذا الموقف صفعةً للسياسيين الذين تقلدوا مناصب رسمية أمثال العبادي ورئيس الحكومة الذي سبقه، نوري المالكي، الذي ترشّح هو أيضًا على الانتخابات هذه السنة. وفي المقابل، لم يكن الصدر يومًا في السلطة مع أنه شخصية نافذة جدًا على الساحة السياسية في العراق.
إن الالتزام بتعليمات المرجعية هو بالنسبة للشيعة المتدينين من شروط الإيمان بالله. وبالفعل، يبدو أن رسالة المرجعية تركت وقعها على قرار الناخبين. فقد بدا مثلاً بحسب نتائج الاستطلاع أن 43% من الأشخاص الذين صوّتوا لصالح «تحالف سائرون» و32% من الذين صوّتوا لصالح «تحالف الفتح» اتخذوا قرارهم هذا لأن مرشحي تلك اللوائح لم يخضعوا بعد للاختبار كسياسيين حكوميين.
مع ذلك فان الانتخابات العراقية الأخيرة اشّرت تحولاً في السلوك الانتخابي للعراقيين من عدّة نواحٍ. فمن الواضح أن الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم متعطّشون للتغيير ومستعدون لاتخاذ قرارات جريئة وأحيانًا غير متوقعة لإحداث هذا التغيير. فمثلاً قام عدد كبير من الناخبين السُّنة باجتياز الخطوط الطائفية التي حكمت تصويتهم في المرات السابقة وأدلوا بأصواتهم للمرشحين الشيعة أمثال العبادي. إذ أن 36% من الأصوات التي نالها هذا الأخير جاءت من العراقيين السنّة، في حين أن أصوات السنة نفسها لتحالف الفتح بلغت 15%. كما ظهرت دلائل أيضًا على أن شيعة العراق بدأوا يتخلّون عن أنماط التصويت الديني السابقة، ويمنحون أصواتا أكثر للقوى غير الإسلامية. وهذه هي بداية الابتعاد عن التصويت على أساس طائفي الذي حكم السلوك الانتخابي للشيعة طيلة الانتخابات السابقة.
*عن منتدى فكرة وهو مبادرة لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.