يوسف عبود جويعد
لقد منحنا الروائي سعد محمد رحيم ومن خلال روايته (فُسحة للجنون) فسحة كبيرة , من أجل الوقوف على ملامح الشخصية , وأهميتها في مسار المبنى السردي , إذ أننا يمكن أن نستشعر الحس الدرامي في النص , وكذلك التراجيديا , وكذلك يمكن أن نستكشف مواطن الحس الكوميدي , وهي جوانب تضيء النص , وتمنحه دفقا جديدا من أجل التحام الآخر في النص , ولكن في هذا النص الروائي الامرقد يبدو مختلفا تماماً , كوننا سنكون مع فضاء نص سردي هو عالم من الجنون , لأن المحور الاساسي الذي يجتاح النص ويطغي على دورة الاحداث , هو بطل الرواية ( حكّو , حكمت , عامر ),كونه فقد عقله , وإصيب بلوثة جنون ترافق سلوكه العام في الحياة وقد تمكن الروائي من تقمص شخصيته كحالة من حالات الجنون , التي يجب أن ينقلها بأدق تفاصيلها , وهو أمر ليس بالهين , لأن في ذلك عليه أن يتقن حياة المجنون , سلوكه , تصرفاته , سماته , تعامله مع الآخرين , أي أنه يجب أن يتيح فسحة كبيرة للجنون , واللا عقلانية , وأي خلل يخالف هذا المسار , وهذا السياق الفني , يعد مغامرة كبيرة , قد تؤثر بالعمل وتقلل من اهميته , من هنا كانت مهمة الروائي أن تكون لديه القدرة لنقل النص الى حالة جنونية مقنعة , يستطيع من خلالها تهيئة الاجواء , وإستحضار كل الادوات الممكنة التي تساهم في رسم ملامح شخصية فقدت عقلها , واصبحت تتصرف دون وعي.
( تناهى لحكمت صوتٌ كأنه آت من بُعد غير معقول :
«إنه مخبول»
قال:
«امك المخبولة «
علا صخب ُ ضحك . والجندي الذي تورّط بالكلام أصبح في مرمى سخرية الجنود الآخرين , وسمع أحدهم يخاطب رفيقه كما من أغوار كهف عميق :
«لماذا لا تزوج أمك المخبولة منه ؟»
التفت حكمت نحو صاحب الاقتراح , أو من ظنه هو, وقال :
«أفضّل امّك» )ص 10
ومن خلال هذا المدخل , الذي يعد العتبة النصية , نعرف أن حكمت (مخبول ) , وعلى الروائي أن يكون ممثلاً بارعاً من أجل تقمص حالة الجنون , وأن يكون مجنوناً لكي يتمكن من تلبس شخصية بطل النص , كونه سيكون دوره هو الراوي العليم الذي يجب عليه أن يكون راصداً فطناً لتحركات هذا المجنون , والتي يجب ان تكون داخل النص غير عقلانية , وخالية من الوعي والادراك , ومن هنا اود الإشارة الى أن الروائي الذي يمتلك ناصية الحرفية والمهنية والخبرة في فن صناعة الرواية , عليه ان يكون ملماً بأدوات السرد , ويستطيع أن يتقمص كل شخصية وفق متطلبات بنائها داخل النص , فإذا كان طبيباً فعليه أن يقنعنا أنه يستحضر شخصية الطبيب بأدق تفاصيلها , وكذلك الحال لبقية الشخصيات التي تدخل ضمن عمله الفني , ونستمر في سبر اغوار معالم شخصية حكمت , وهي تنمو عبر مسار السرد , لندخل اكثر الى حالة الجنون , حيث يبدأ نمو هذا السلوك منذ الصفحات الاولى لهذا النص , وهي تمثل حالة انتقالية للآخر ليكون مع العالم المجنون الذي طغى على فضاء النص :-
( « لكل شجرة شمس , لكل شجرة هواء , لكل شجرة رسّام , لكل شجرة حصان «
يضحك الدكتور راسم : « ما هذا ياحكمت ؟»
« لكل حصان ولي عبود , لكل ولي عبود خدّوجة، لكل خدوجة عصا, لكل عصا زعاطيط «
يلتفت إليه الدكتور راسم وهو يضحك « كفى , كفى « يصفق حكمت
« خدّوجة يا هايفة , خدّوجة يا جايفة , خدّوجة يا عالية , خدوجة يا ناصية , خدوجة بنت الباشا , تلعب ويا الفرّاشة «
يغرق الدكتور راسم بالضحك ويوشك أن يفقد السيطرة على سيارته الآخذة بالتمايل وسط الشارع , يطلق سائق الحمل الكبيرة الآتية من الجهة الاخرى صوت منبه عال وغاضب ) ص 41
وهذا التقدم والنمو في شخصية (المخبول) حكمت , وتمكن الروائي من تقديمه الى المتلقي في حالة الجنون , من أجل أن يبرز السؤال الملح في ذهنه , ما حكايته , ولماذا وصل به الحال الى هذا الحد؟, وماهي الاحداث التي سوف تمر بنا ؟, فقد عمد الروائي أن يظهر لنا هذه الحالة من اجل متابعة شيقة وهادفة وإنسانية , لنعرف أن حكمت واسمه الحقيقي عامر , كان طالباً في كلية الفنون الجميلة , وعاش قصة حب عنيفة مع عشيقته نهلة , وفي السنة الرابعة وقبل تخرجه بأيام , يقتاد معتقلاً لمديرية الامن , بتهمة انتماءه لاحد الاحزاب المعارضة للسلطة , أي أنه شيوعي , وافكاره يسارية , ورغم محاولته القاسية والمضنية لإقناعهم بأنه لا ينتمي لأي حزب , الا انهم لا يصدقوه , ونعيش حالة تعذيب مريعة وقاسية , ولا إنسانية تتأزم وتكبر , من خلال كشف طرق تعذيب مختلفة تعرض لها :-
« من انتم وماذا تريدون منّي ؟»
« لاتسأل وبلا عنتريات لمصلحتك»
يحسّ بالبرودة تسري في عموده الفقري , وبمعدته تتقلص , وبإرتجاف خفيف في اليد التي تمسك بلوحته غير المنجزة , وبعطش حارق ) ص 97
هكذا كانت بداية رحلة الالم والعذاب في اروقة التعذيب , بعد أن طاف بنا الروائي في أجواء العلاقة العاطفية التي نشأت بين عامر ونهلة , وصار قاب قوسين او ادنى من التخرج من الكلية , الا ان القدر شاء غير ذلك :-
« وإختض عامر على اثر لسعة ضربة سوط مباغتة على وجهه .. وتوالت الضربات سريعة وهو يحاول درأها بيديه المقيّدتين بجامعة تشدّ حلقتيهما على معصميه . وامسك به اثنان وهو ينتفض ويصيح . وقيّدوه نائماً على بطنه الى سرير حديدي لا فراش عليه .. كشفوا ظهره والهبوه بكيبل نصف إنج . وهذه المرة كان إثنان يضربان بإيقاع منتظم , ومن ثم نزعوا سرواله ولباسه الداخلي معاً وتوالت الضربات على مؤخرته الضامرة .
قال أحد الاثنين ممن يضربانه : « سيدي , عضوي انتصب «
رد المحقق : « نكه « ) ص 123
وأمر وصول حكمت الى حالة الجنون , وفقدان الوعي , وتلف عقله , أثر التعذيب المضني ليس حالة عابرة , لذا فقد عمد الروائي لنقل اقسى حالات التعذيب , وجعل المتلقي يعيشها :
( ليس من صالحك العودة الى …..أمك الذي سأدخلك فيه .. ما تبقى منك لن يتحمل ما سأفعله بك «.
«إقتلني»
« هذا ما سأتجنبه لشهر كامل .. سأجري عليك تجارب تعذيب لا تعرفها حتى جمهورية المانيا الديمقراطية التي علمتني , قبل أن أدعك تلفظ آخر نفس .. سأطعمك لكلاب أجوّعها اسبوعاً كاملاً»
« قل لي ماذا تريد منّي وسأنفذه لك؟ . هات أوراقاً ودوّن عليها جرائم الكون كلها من قابيل وهابيل وحتى يوم القيامة لأوقع عليها وأنا ممنون « ) ص 149
ثم ننتقل الى نهلة وقلقها الكبير عليه , وسر اختفائه , وهي لا تعرف عنه شيئاً , ثم الى الدكتور راسم صديقه , وبعد أن يتأكد لهم في مديرية الامن , أن عامر قد فقد عقله وانتهى امره , تركوه ليعيش في البلدة (ب) الحدودية مع الجارة إيران , وفي وقت نشوب الحرب حرب الثمانية سنوات , ليكون اسمه (حكمت او حكّو), وينزح سكان البلدة , هرباً من الحرب والقصف المستمر , والدمار الذي لحق بها , الا أن حكمت يصر على البقاء وحده في هذه البلدة , ليجمع هناك الكلاب والقطط والحمير , ويتعرف على اصدقاء جدد اصيبوا بلوثة الجنون , ليزداد هذا العالم جنوناً , وتحاول نهلة بشق الانفس ومن خلال دكتور راسم معرفة مكان حكمت , وتذهب مع فريق عمل , لتتعرف على حالته عن قرب , الا انه لا ينظر اليها ولم ينطق الا بكلمة واحدة (اذهبي الى بيتك ) :-
( تنتزع الشجيرة نفسها من بين أصابعه وتدعه لمشيئة التيار ليرحل معه .. ينزلق وكأنه يُسحب بشريط الدم المتّسع على صفحة الماء بعيداً نحو جنوب الشمس . يذهب خوفه , يتلاشى هكذا , او يكون نسيه وما عاد يهتمُ به .. تتولاه نشوٌة مظلمة رائعة حارّة يذعن لها . يستسلم لسطوتها .تذيبه . تذوب ِروحه كقطعة حلوى في فم طفل جائع . وقبل أن ينغمر رأسه في الماء تماماً يهمس بصوت دافئ مفعم بالانشراح , بكلمة , لن يسمعها أيُ أحد في العالم ………)
رواية (فسحة للجنون ) للروائي سعد محمد رحيم , تؤكد على حقيقة حرفية ومهنية الروائي في هذا البلد المجنون وقدرته على اعتلاء منصة السرد العالمي في الرواية الجديدة .