بعد مشوار طويل من الخرس الشامل، خرجت علينا باكورة التظاهرات المقذوفة الينا من حمى “الربيع العربي” بشعار رددته التجمعات التي احتشدت تحت نصب الحرية وسط العاصمة بغداد وهو (باطل) من دون أن يكلفوا أنفسهم في التعرف على ملامح وهوية هذه المفردة المتنافرة أصلاً ومغزى الأساليب والوسائل الحداثوية التي اعتمدوها في الاحتجاج والتعبير عن الرأي، بوصفها إحدى ثمار التعددية والتطور الحضاري الذي تجاوز مفردات وأدوات العالم القديم. هذه المفردة وقرينها الذي لا يفارقها (الحق) لهما الصدارة في أشد المحطات رعباً وفتكاً في تاريخنا القديم والذي ما زالت ثوابته الجليلة فاعلة الى يومنا هذا. لقد أشرت مراراً الى نصيحة الحكيم كونفوشيوس بضرورة إصلاح اللغة، بوصفها رأس الأولويات؛ وها هي المفردات والشعارات غير الدقيقة والمبهمة مثل (باطل) تخلط الأوراق في مثل هذه الوسائل الاحتجاجية والحضارية المجربة. ما جرى في جامعة واسط من تظاهرات رددت شعار (باطل) ضد السيد حيدر العبادي، وما رافقها من مشاهد رميه والوفد المرافق له بقناني المياه وغيرها من التصرفات غير اللائقة، يؤكد ما حذّرنا منه مراراً حول طبيعة وآليات وشعارات مثل هذه الممارسات الحضارية، والتي بسبب انقطاعنا الطويل عنها، صارت تواجه خطر انحرافها الى ما لا يحمد عقباه، وهذا يعيدنا الى ما قالته مدام رولان زمن الثورة الفرنسية (1789) (ايه ايتها الحرية! كم من الجرائم ترتكب باسمك).
لم يعد أمر فساد الطبقة السياسية، بحاجة الى عبقريات خاصة كي يكتشف، ووضعنا بنحوٍ عام لم يعد فيه مجالا لجولات جديدة من البطولات والمآثر الاستعراضية، إذ يحاول البعض تقمّص دور الملائكة مقابل شياطين المشهد الراهن. كما أن استمرار طقوس التظاهرات والاحتجاجات بمناسبة وغيرها سيلحق الضرر بهذه الوسيلة الحضارية والتي انتهكت بنحوٍ مؤسف من قبل قوى وشخصيات وجماعات ودوافع لا يجمعهم شيء غير مثل هذه الشعارات المبهمة من نسيج باطل وأخواتها. إن خلط الأوراق بهذا الشكل لن يخدم سوى القوى التي وصفت ما جرى بعد زوال النظام المباد بعبارة (ما بني على باطل فهو باطل)!
علينا توخّي الحذر والدقة في تقدير ما يجري من أحداث وتطورات، لا سيما بعد الخسائر الماحقة التي لحقت برأس رمح الإرهاب والإجرام داعش، وعدم الانجرار خلف صدامات ونزاعات لا مبرر لها وبالتالي تصعيدها الى حيث لا ينفع الأسى والندم، علينا الانتباه الى خطر الميول التي تسعى لجس نبض القوى الأمنية وردود أفعالها في مثل هذه الاحتكاكات والاشتباكات، فما زلنا (متظاهرون وقوات مكافحة الشغب) بعيدين عن سن التكليف الحضاري لمثل هذه النشاطات. لقد أشرنا في عشرات الأعمدة والمقالات واللقاءات الى الخلل البنيوي في الأجهزة الأمنية (وعياً وملاكات) ومدى فهمها وإدراكها لوظائفها الجديدة والمتنافرة وما كانت عليه زمن النظام المباد. إن محاولات حرق المراحل والاستثمار في المزاج المتنامي للاستياء والتذمر وتسخيره لصالح المزيد من الفوضى، لن يؤدي في نهاية المطاف لغير المزيد من الخيبات وبالتالي قطع الطريق أمام التطور التدريجي والطبيعي للبلد، من خلال إمكاناته الواقعية البعيدة كل البعد عما تنسجه مخيلات بعض “الأفندية” من فلول الأوهام والشــعــــارات مقطـــوعـــة الجذور..
جمال جصاني
“باطل” يراد به باطل
التعليقات مغلقة