خورخي كاستانيدا*
يزعم الرأي السائد في أميركا اللاتينية أن التركيبة التي تتألف من النمو الاقتصادي والديمقراطية التمثيلية وتوسع الطبقة المتوسطة قادت المنطقة إلى فخ، حيث ترتفع توقعات المواطنين بسرعة أكبر من قدرة الحكومات على تلبيتها. وتنظم الطبقات المتوسطة التي تملك منها الإحباط، جنباً إلى جنب مع القطاعات التقليدية، التظاهرات وأعمال الشغب، ويصوت المنتمون إليها لإخراج الحكومات غير المستجيبة من السلطة. ولكن قليلين هم من توقعوا أن يهدد هذا المد من الإحباط أكثر رؤساء أميركا اللاتينية كفاءة واقتداراً، رئيس كولومبيا خوان مانويل سانتوس، أو أحد أكثر التقاليد تبجيلاً في كولومبيا، والتي تتمثل في كرة القدم البرازيلية.
حكم سانتوس كولومبيا بجرأة وفعالية لمدة أربع سنوات. وهو لم يكتف بالتصديق على اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الحكومات السابقة؛ بل وكان بالغ الحزم أيضاً في تنفيذ إصلاحات مهمة، برغم الاحتجاجات الواسعة النطاق من قِبَل الطلاب والمعلمين والفلاحين وأصحاب المشاريع التجارية في العام الماضي. وبرغم عدم نمو الاقتصاد بالسرعة الكافية لتلبية احتياجات البلاد، فإن الأداء الاقتصادي كان أفضل من بلدان أخرى عديدة في المنطقة.
والأمر الأكثر أهمية هو أن سانتوس حشد رأسماله السياسي في التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق سلام ونزع سلاح «القوات المسلحة الثورية في كولومبيا» ــ وهي الجماعة المسلحة القوية (التي كانت توصف غالباً بأنها حركة «عصابة مخدرات مسلحة») التي عاثت فساداً في البلاد لأربعة عقود من الزمان. وبرغم إحراز بعض التقدم منذ بدأت محادثات السلام في كوبا قبل ثلاثة أعوام، فإن المفاوضات كانت تتقدم ببطء، الأمر الذي أعطى معارضين مثل ألفارو أوريبي، وهو سلف سانتوس، متسعاً من الوقت لحشد الرأي العام ضد المحادثات.
وباستغلال المعارضة الواسعة النطاق لمنح زعماء القوات المسلحة الثورية في كولومبيا العفو ــ وهو التنازل الذي يشكل عنصراً أساسياً في أي اتفاق بين الطرفين ــ نجح خصوم سانتوس في تحويل الجولة الأولى من الانتخابات إلى استفتاء على المفاوضات. وخسر سانتوس بنحو خمس نقاط مئوية.
لقد تمكن الاكتئاب والتوتر من الكولومبيين، فصبوا جام غضبهم على سانتوس. وقد تعافى في الجولة الثانية ولكنه فاز بهامش أقل كثيراً من كل التوقعات قبل ستة أشهر.
والبرازيليون أيضاً يعيشون حالة من الاكتئاب والتوتر الآن، وهم يصبون جام غضبهم على حزب العمال الحاكم، الذي يعد بطولة كأس العالم لكرة القدم التي تنظمها البرازيل حالياً وخطط استضافة دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية في عام 2016 بمنزلة رمزين بارزين لزعامته الناجحة. وفي أعقاب ركلة بداية مباراة كأس العالم الافتتاحية في وقت سابق من هذا الشهر، بدأت شعبية رئيسة البلاد ديلما روسوف، التي من المقرر أن تخوض حملة إعادة انتخابها في أكتوبر/تشرين الأول، تنحدر في استطلاعات الرأي.
والواقع أن رئيسي حزب العمال ــ أولاً لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، ثم ديلما روسوف ــ كانا يعتقدان أن تنظيم الحدثين الرياضيين الأكثر أهمية على مستوى العالم في غضون عامين من شأنه أن يؤكد على ظهور البرازيل كقوة عالمية صاعدة، ويخدم كحفل تخرج. وكان منطقهما سليما (ولو أنه متغطرس بعض الشيء)؛ ذلك أن بلدين آخرين فقط ــ المكسيك وألمانيا ــ يمكنهما التباهي بعقد هذين الحدثين بفاصل زمني قصير بوصفه بين إنجازاتهما المهمة.
ولكن صعود البرازيل لم يكن آمناً كما تصور زعماؤها. ففي عام 2011، تعثر الاقتصاد وظل الناتج راكداً منذ ذلك الحين. وتوقف نمو الطبقة المتوسطة الدنيا ــ التي انضم إليها عشرات الملايين من البشر في الأعوام السابقة. كما انفجرت الديون الاستهلاكية.
وحتى أسعار السلع الأساسية التي ارتفعت إلى عنان السماء، والتي عززها الطلب القوي من الصين، تحولت إلى إشكالية كبرى، حيث تعمل التوقعات بانعكاس اتجاه معدلات التبادل التجاري على إثارة قدر كبير من عدم اليقين. ومع تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين والهند، تراجعت بالتالي مشتريات هذين البلدين من السلع الأساسية البرازيلية.
كما تحطم اعتقاد البرازيليين أن بلادهم كانت تسير نحو الازدهار والرخاء الطويل الأمد ــ وهم يحملون روسوف المسؤولية عن ذلك. ففي شهر يونيو/حزيران الماضي، كانت زيادة بسيطة في رسوم النقل العام في ساو باولو سبباً في إشعال شرارة موجة من الاحتجاجات في شتى أنحاء البلاد، وأعرب المواطنون عن سخطهم إزاء رداءة الخدمات العامة التي تقدمها حكومة تفرض أعلى معدلات ضريبية في أميركا اللاتينية. وعلى هذه الخلفية، استنكر المتظاهرون أيضاً القرار الذي اتخذته الحكومة بإنفاق المليارات من الدولارات على البنية الأساسية المطلوبة لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم، بما في ذلك الملاعب والفنادق والمطارات.
قبل بضع سنوات، أيدت أغلبية كبيرة من البرازيليين تنظيم بطولة كأس العالم في بلدهم. وبحلول شهر مايو/أيار الماضي، انحدرت نسبة التأييد إلى النصف ــ وهي نسبة منخفضة إلى حد مذهل بين الجماهير الأكثر تحمساً للعبة كرة القدم على مستوى العالم ــ مع استمرار الاحتجاجات الحادة برغم كونها صغيرة في شتى أنحاء البلاد. ويريد معارضو روسوف باحتجاجاتهم تعطيل المباريات، وإلحاق الضرر بصورة البرازيل الدولية؛ بل إن البعض يتمنون خسارة فريق البرازيل.
ولن تكون مثل هذه النتيجة في مصلحة البلاد. فهما بلغ شعور أبناء الطبقة المتوسطة الدنيا في البرازيل بالإحباط من مدى، فإن تنظيم بطولة كأس العالم بنجاح هو الخيار الأفضل المتاح لهم. على نحو مماثل، وخلافاً لتصورات أنصار أوريبي، يشكل فوز سانتوس بولاية أخرى واستمراره في ملاحقة السلام ما تحتاج إليه كولومبيا على وجه التحديد في الوقت الحالي. وكلما أدرك المزيد من المواطنين أهمية هذا الجهد وساندوه، كانت فرص نجاحه أعظم.
الواقع أن كل هذه الشكوك تنبئنا بالكثير عن الأحوال في البرازيل وكولومبيا ــ بل وفي قسم كبير من أميركا اللاتينية. فبسبب النمو البطيء والتوقعات المرتفعة أصبحت المنطقة في حالة من الاكتئاب والتوتر متزايدة العمق، ويبدو أن لا أحد على يقين من كيفية الإفلات من هذه الحالة، الأمر الذي يترك المواطنين والقادة على حد سواء في حالة من الانتظار والترقب والأمل.
*وزير خارجية المكسيك سابقا (2000-2003)، وأستاذ السياسة ودراسات أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في جامعة نيويورك.