جوان سلو
كانت الألواح الطينية كُتب الحضارات السابقة، قد ضمّت في نقوشها وسطورها تاريخ الملوك والحروب والأساطير، كالحضارة البابلية والسومرية والأكادية والآشورية والحورية، وغيرها من الحضارات العريقة، في بلاد ميزوبوتاميا، متخذة من الكتابة المسمارية أبجديةً؛ لنقل المعلومات للأجيال القادمة، وتوثيق حياة تلك الحضارات التي عاشت آلاف السنين، معتمدين على الطين كمادة أولية مقولبة، إضافة إلى القلم الذي كان عادة غصنا أو عظمة، أو أي شيء يمكن من خلاله النقش على تلك الألواح.
عندما تحفل هذه الألواح بالوصايا والنصائح والأمثال، فأنها تحمل طابعا أدبيا، فالوصية هي نوع نثري عرفها الإنسان منذ قديم الأزل، ليدوّنها الإنسان القديم على ألواحه وعلى رُقمه وعلى جدران معابده، لتبقى تذكّره بماضيه وإشارة لمستقبله، كحكايا الأجداد التي ما لبثت تعيد نفسها من جديد كلما مررنا بأحداث مشابهة.
من هنا خلص القاص( علي السباعي ) إلى أن الوصايا التي وجدها في آثار العراق وعلى الألواح الطينية لا تموت ولا تندثر، لأنها تعيش للأبد عبر الأحداث التي تتكرر باستمرار، وهذا ما جعله يبحث في الألواح القديمة عن وصايا الأجداد ليدونها في مجموعته القصصية القصيرة جداً، والتي تحمل عنوان: ( ألواحٌ . . . مِنْ وَصَايَا الجد) وهي من منشورات أحمد المالكي في بغداد، سنة 2019م. الطبعة الأولى.
كان العنوان وما يزال أول ما يشد القارئ، كون العنوان هو مفتاح العمل الأدبي، إنه اللغز الذي يريد منا الكاتب أن نبحث عن أسراره في مادته هذه، ونفك طلاسم أبجديته، لذلك اختار الكاتب عنوانا تراثيا أو اسطوريا نوعا ما، رابطا كل شيء ببعضه، ليوحي لنا أن الوصايا القديمة لا تندثر، بل تتوارث من جديد، وكأنها تراجيديا متكررة دائما، لا تعرف السكون. جاعلا من الاسطورة مدخلا لسرد واقعه وطريقا لكتابة قصة معاصرة.
تضم المجموعة سبع وتسعين قصة قصيرة، في مئة وأربع وعشرين صفحة من القطع المتوسط. بدأ الكاتب مجموعته بآية من سورة يوسف، الآية 110، ليسرد لنا بلغته الحكائية السهلة، والتي تعوّدنا عليها، كل اليوميات والوقائع التي عاشها أو سمعها أو قرأ عنها، وهذه القصص هي خلاصة تجارب حياتية مشتركة، تصلح أن تكون عامة يتشارك بها كل مواطن شرق أوسطي، تحمل بين طياتها المعاناة اليومية والسياسية والاجتماعية.
وتحكي قصص المجموعة عن صور واقعية عبرت بأسلوب أدبي وسلس ومشوق عن الحالات الإنسانية والحياتية، ذات دلالات واسعة وعميقة.
ذكريات طينية
ليس غريبا على كاتب متمرس مثل القاص المبدع ( علي السباعي )، أن يجبل طين وطنه بعرق كلماته ومعاناته، ربما سيعيد بذلك شيئا من ذلك الدين والودّ الذي حفظه الكاتب لوطنه في قلبه، رغم ما يعايشه من أزمات، لذلك عمدَ الكاتب إلى التركيز على الذكريات، كونها المنبع النقي لأحداث المجموعة، فنجده في قصة شباك عبد الرضا عناد، يسرد فيها الكاتب قصة تلك الدموع والآهات الحبيسة خلف نوافذ ذلك الشباك، إذ يقول: ” شباك خشبي شاخت ملامحه، طالها التعب، تعب الجنوب، مثلما طال التعب وجوهنا الجنوبية وعلاها حتى صار علامتها الفارقة، مثلنا شباك عبد الرضا عناد، شباك كدر كدرة حياتنا العراقية، شباك قديم، قديم مثل قصص الحب الأولى، حبنا الأول، يوم كان الخجل “المستحه” حاضرا” .
مرة أخرى ينجح كاتب القصة القصيرة السباعي علي في إظهار مساوئ الحروب على الشعوب، هذه المعارك التي قام بها الأقوياء، لبسط سيطرتهم على وطنه، فيموت الفقراء والأبرياء خدمة لمصالحهم.
“صباح يوم عرسي، خرجت لأجلب لأهلي وزوجتي طعام الإفطار الصباحي القيمر والكاهي العراقيين، كان ذلك بداية حرب، أثناء وقوفي لشراء الفطور، وإذا برجال الحزب يأخذونني إلى جبهة القتال، أسرتني القوات الإيرانية، عدت بعد انتهاء الحرب إلى أرض الوطن، إلى بغداد ليلا، إلى الناصرية فجر ا، أنزلتني السيارة صباحا أمام فرن الصمون عينه وبائعة القيمر ذاتها، اشتريت طعام الإفطار لأهلي وزوجتي، وذهبت لدارنا، طرقت باب المنزل، خرجت زوجتي التي كبرت ثماني سنوات، أعطيتها الطعام قائلا بلهجة عراقية محببة: خوّ ما تأخرت عليك؟ “
بحر اللغة الشعبية
تعد اللغة هي الشيفرة التي تفك طلاسم التواصل بين الكاتب والقارئ، وهي الأداة التي نجح فيها القاص من خلالها أن يخاطب جمهورا واسعا من القراء، عن طريق اعتماده على المصطلحات العامية العراقية، القادمة من عمق التاريخ، وكأن اللغة هي وصية من الوصايا التي حفظت نفسها في الألواح، ليقول مثلا: القيمر، الكاهي، وغيرها الكثير.
لا تخلو قصة من هذه المجموعة إلا وقد بث( علي السباعي ) فيها شيئا من آلامه، شكواه، الفراق الذي تعشش بحزنه في قلبه، وذلك جاءت قصص: ( ألواحٌ . . . مِنْ وَصَايَا الجد )، عاكسة لما يعالج روحه من أوهام السعادة المختفية خلف ظلال الواقع، حيث جاء السرد بسيطا من حيث الشكل وعميقا من حيث المضمون، لأنه كان حريصا على نقل الأحداث بعين متفحصة، هي رحلة شاقة قام بها المبدع علي السباعي ليحكي عن حكايا الأجداد المتداولة على ألسنة الأجيال المعاصرة، وهي رحلة ملؤها الوجع والحسرات.
*كاتب من سوريا