فاضل ثامر
يمثل ” البيان الشعري” الذي كتبه، في الأصل، الشاعر فاضل العزاوي وظهر موقعاً من قبل أربعة شعراء هم: فاضل العزاوي وسامي مهدي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى، الإعلان الرسمي عن تبلور مشروع الحداثة الستينية، كما يمثل، من جهة أخرى، بوصفه “مانفيستو” إيذاناً بولادة جيل الستينيات الشعري في العراق، الذي أعقب جيل الخمسينيات الشعري، والذي تبلور دونما بيان شعري بتوقيع شعراء كبار أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، فضلاً عن شعراء مجايلين أسهموا في بلورة مشروع الحداثة الشعرية الأول ومنهم بلند الحيدري ومحمد البريكان، وكاظم جواد، ورشيد ياسين وغيرهم، ولم يكن ظهور جيل الستينات، أو الموجة الثانية في حركة الحداثة، الشعرية أمراً فردياً، أو منوطاً برغبة شاعر معين، بل كان يعبر عن عملية مخاض اجتماعي، طويلة وعسيرة مرت بها التجربة الشعرية الثقافية والسياسية، وهو ما يتطلب تحليلاً سوسيوثقافياً متأنياً للكشف عن ديناميات وعي هذا الجيل الشعري الجديد وتوجهاته ورهاناته المختلفة.
لقد ولد هذا الجيل في ظروف صعبة اتسمت بالهجمة الظلامية الفاشية لصعود اليمين المتحالف مع الامبريالية الأمريكية، عبر بوابة انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، الذي وأد بدوره مشروع الحداثة الخمسيني، وحفّز الشاعر العراقي آنذاك للبحث عن حداثة بديلة لمواجهة صعود هذا المد الفاشي ورموز العسكرتاريا في العراق.
لقد ارتكب نظام البعث في شباط مجازر رهيبة ضد أبنا الشعب العراقي ومثقفيه وثقافته، وشلّت الثقافة كلياً، وزج بخيرة المثقفين من أدباء وشعراء وفنانين واعلاميين وأكاديميين داخل السجون، وسحقت الأحزاب والمنظمات الديمقراطية واتحادات الأدباء والصحفيين بعنف ووحشية.
في مثل هذا الجو، وجد الشاعر الستيني نفسه وحيداً ومعزولاً ومحاصراً، لذا شعر إن مسؤولياته أن يخوض المعركة لوحده في مواجهة قوى الاستبداد والعنف، وأن يجيب عن الأسئلة الصعبة، السياسية والثقافية التي فرضتها عليه تلك المرحلة. ولذا راح يبلور مشروعه الشعري، الذي يختلف جذرياً عن مشروع الشاعر الخمسيني الحداثي. واذا كان هدف الشاعر الخمسيني يتمثل في تحقيق تغيير جذري في البنى الاجتماعية والسياسية، وفي أشكال التعبير الشعري والفني وربما بشيء من المصالحة مع الواقع الاجتماعي، فأن مشروع الشاعر الستيني نهض على أساس تدميري مضاد للواقع الاجتماعي القامع ولبناه الايدلوجية والسياسية والثقافية. ولذا لم يكن غريباً أن يختتم “البيان الشعري” بهذه الكلمات المشتعلة:
“ولقد آن للقصيدة العربية أن تغير العالم من خلال نسف أضاليل الماضي والحاضر، وإعادة تركيب العالم داخل رؤيا شعرية جديدة.”
وهكذا جاءت تجربة الستينات محملة برغبة في تحطيم الأطر السياسية والثقافية والشعرية التقليدية وإقامة بدائل مفتوحة على حداثة بلا حدود، بخلاف الحداثة الخمسينية التي توقفت عند مرحلة معينة.
واذا ما كانت خارطة طريق حداثة الخمسينات تتمثل في الدخول إلى مغامرة الحداثة madrvuity بما فيها من مغايرة وتأسيس، على مختلف المستويات، فإن خارطة طريق حداثة الستينات كانت تتجسد في الوصول الى مشارف مشروع الحداثانية أو الحداثوية maderuism في الثقافتين الفرنسية والأنكلوسكسونية، بكل ما فيها من مذهبية ونزوع لتدمير العالم واعادة تشكيله، وإحداث “انقلاب” شامل في البنى الشعرية عبر ذات الشاعر الستيني المسحوق والمضطهد والمستلب ثقافياً وسياسياً.
ومن هنا جاءت الحداثة الستينية تنطوي على مواقف تمردية وعبثية وأحياناً نهلستية عدمية شاملة، والى ريبة مطلقة بكل المؤسسات والايديولوجيات والمفاهيم التقليدية، وكأنها تعكس أصداء الثورات والبيانات الثقافية العالمية مثل البيان السوريالي والبيان الدادائي والبيانات المستقبلية المختلفة، التي تدعو الى “نسف” العالم واعادة خلقه من جديد.
لقد فتحت الحداثة الستينية طريقاً واسعاً ولا نهائياً أمام التجديد والابتكار، فظهرت قصيدة النثر وتنويعاتها، والقصيدة المركبة، وقصيدة السيناريو، وقصيدة المشهد الشعري، والقصيدة الدرامية، والقصيدة الملحمية، وقصيدة الصورة، والقصيدة المدورة، والقصيدة العنقودية وغيرها.
كما كانت هذه الحداثة إحدى القوى الدافعة للأجيال الشعرية اللاحقة وبشكل خاص أجيال السبعينات والثمانينات، والتسعينات من القرن الماضي.
وها نحن نطوي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ونشعر بثقة بأن وهج التجربة الستينية وبعد ما يقرب من الستة عقود مازال مضيئاً مرشداً لمزيد من الابداع والتحديث والتجديد في بنية القصيدة العربية، وفي بنية الوعي الاجتماعي والثقافي. كما يمكن القول إنها حصنت الشاعر العراقي من السقوط في فخاخ التطبيل والمديح للأنظمة الشمولية والفاشية وحفزت الشاعر على ان يضع مسافة بينه وبين كل ما يحد من حريته وابداعه وحقه في الحياة الانسانية الكريمة.
ستظل تجربة الحداثة الشعرية الستينية تمثل اضافة مهمة ومحسوسة لسفر الشعر العراقي، وستظل الاجيال الشعرية المختلفة مدينة الى الكشوفات التي فتحتها هذه التجربة الشجاعة لتأسيس مشروع حداثي منفتح ومتواصل للشعرية العراقية.