يوسف عبود جويعد
تداخل الحكايا والأحداث التي ضمتها رواية(الدكتور عوني) للروائي رياض المولى، تختلف من حيث بنائها الفني، كونها تنوعت وخرجت عن المألوف، فلم تكن حكاية داخل حكاية، كما نجد ذلك في الموروث الحكائي الشعبي، لأكتنافها طابع الغرابة والذهول وذلك لكونه تناول الاحداث باساليب مختلفة، فقد توزعت بين الحياة الواقعية والعالم السفلي من خلال استحضار الجن، والعقل الباطن عبر التنويم المغناطيسي واخيراً المستقبل ، بعد أن نعلم بأن دكتور عوني طبيب أختصاص طب النفس ويميل الى العلم في رؤيته لواقع الحال لكل مرضاه، الا أن أمر عزوف المرضى المصابين بأمراض نفسية، عن مراجعة الاطباء ومراجعتهم الى الشيوخ والمشعوذين لاستخراج الجن الذي يتلبسهم واعطاؤهم حفنة بخور مع تعويذة وقنينة ماء.
الشيخ والدكتور
كان أمر يشغل بال الدكتور ويثير حفيظته من أجل الكشف عن الحقائق، من تلك اللحظة الفارقة بدأت خيوط أحداث هذا النص تتشكل بشكل مغاير على ما اعتدى عليه من نصوص سردية روائية، حيث نشهد عملية تركيبية فنية أخرى، عندما يقرر دكتور عوني خوض غمار تجربة جديدة، بالذهاب الى الشيخ الذي ازدحم على باب داره جمع غفير من الناس، من أجل شفائهم من أعراض مرضية نفسية، فيرتدي ملابس عادية ويشرح له حالة مفتعلة، ويزوده بالعلاج، كما هو حال هؤلاء الشيوخ والدجالين والمشعوذين، وبما أن تلك الحالات ظاهرة شائعة ومثيرة الى الاهتمام وأن الجهل والبساطة والفقر وقلة الوعي، هو السبب الرئيسي في تفشي هذه الظاهرة، لذا فأن دكتور عوني يقرر أن يتوغل في هذا العالم، ومن خلال سكرتيره هادي الذي قرر أن يرافقه في رحلة علاجه، بعد أن كان مصاب بحالة كآبة حادة وقد خضع لعلاج مكثف من قبل دكتور عوني حتى تماثل للشفاء، عندها قرر أن يكون معه ويعمل بعيادته التي هي داخل شقته، وكذلك يقوم بادارة الشقة من طبخ وتنظيف وتنفيذ طلبات الدكتور، وهكذا فأن دكتور عوني طلب من هادي ان يجد له شيخ على علم بالامور الروحانية وتسخير الجن، ويتحقق اللقاء ويتعلم دكتور عوني الاساليب التي من خلالها يمكن ان يقوم بهذه العملية بشكل متقن، وهكذا سنكتشف أن عوالم أخرى تتداخل وتنضم الى نسيج الاحداث لتتسع تلك الدائرة وتكبر، لتخرج من الدائرة الاولى العيادة والمراجعين وهادي وواقع الحياة الى نقلة جديدة غريبة وملفتة للاهتمام وهي بمثابة خطوة ثانية نحو هذا التداخل، حيث يقرردكتور عوني الذهاب في خلوة وفي مكان صحراوي من أجل القيام بمهمته:
( ساعات طويلة وهو يقرأ بصوت عميق وواثق، والظلام يزداد حلكة وسواداً كلما امتدّ الوقت عميقاً في جوف الليل، فعمّ سكون مفاجئ خفتت على إثره حركة الرياح وكفت عن ضرب الرمل والدوران في الجيوب والاخاديد المحفورة في وجه التلال الرملية الصلبة، شعر بقدوم ضيف ثقيل الوطأة ذي حضور قوي أناخت له رياح الصحراء فهدأت وتيرتها، فعمّ صمت مخيف وكأنه مقدمة لوصول شيء ما، لكنه لم يرَ أي مخلوق، شعر بوجود شيء ما يقترب منه، وبدأ يضغط عليه لكنه بدون هيئة معينة،تحير الدكتور عوني في: كيف سيحاور مخلوقاً لم يره من أول وهلة، ساد صمت عميق مزعج أطبق على المكان وما زال الضغط مستمراً، عندها نطق وقد استجمع قواه وهو يريد أن ينهي مسألة هذا الغموض الذي اكتنفه وأشعره بالملل والازعاج..) ص 40
الدكتور والجن
من هنا تبدأ حبكة مبنى هذا النص، تتفاعل وتتكون من أجل نقلة أخرى غير متوقعة ولا تخطر على بال، حيث أن المتلقي يظن بعد دورة الاحداث تلك أن إتجاه النص سيأخذ منحاً يتعلق بهذا العالم وغرابته والصراع القائم بين وجوده وغيروجوده، وبعد أن ضخ الروائي ادواته السردية بشكل متقن حيث نجد أن الزمان والمكان والشخوص والاحداث حاضرة بشكل واضح، وتتحرك وفق السياق الفني المطلوب، لذا فأن عملية التمويه وإشغال المتلقي بالتوقعات المعتادة، بينما تأخذ الاحداث مسارآخر أمر يصب بحرفية صنعة الرواية وتقنياتها، فبعد أن يطلب دكتور عوني من الجن ميمون أن يدخل العالم السفلي، ويرضخ الجن لأمره، تحدث الانتقالة الزمانية والمكانية الغريبة، ولا نعرف عن الدكتور عوني أين ذهب؟وكيف يكون هذا العالم، لكننا نعرف بعد ذلك أن عودته الغريبة بعد مضي عشر سنوات وبعد التغيير وسقوط الطاغية واختلاف الحياة وتغيرها، وهو لا يعرف كيف مضت تلك السنوات وماذا حدث خلالها؟.. الأمر الذي جعل المتلقي يتابع هذه الخفايا، وتلك السنين الضائعة، وبعد تفاصيل دقيقة عن تلك المتغيرات التي حدثت جراء هذا التغير ، ينشغل دكتور عوني باستكشاف هذه الفترة الزمنية، ولم يجد بدأ الا السفر الى لندن والالتقاء بدكتور فهمي وهو تلميذه واختصاصه في علم التنويم المغناطيسي من أجل البحث في العقل الباطن عن العشر سنوات الضائعة من عمره.
ومن خلال عملية التنويم المغناطيسي ندخل الحكاية الثالثة والنقلة الثالثة والاحداث التي تضمنتها هذه الفترة، وهي أحداث محتدمة بين ظهور العالم السفلي المضبب والمخيف، الى زواج هادي من العاهرة سناء وقتلها غسلاً للعار، وظهور فرح لتعمل بعيادة دكتور عوني ثم الزواج منها ثم خطفها وعند عودتها تهرب الى مكان مجهول، وكذلك الشقة التي هجم عليها مسلحين ملثمين للبحث عن ابنهم الذي يعمل مترجم لدى الامريكان واحداث وتفاصيل تتعلق بهذا التداخل وهذه التركيبة الفنية، لنكون مع أحداث تروى من داخل العقل الباطن ومن خلال عملية التنويم المغناطيسي، وهكذا فأن عملية سرد الاحداث بهذا الاسلوب حقق الغاية المتوخاة في جعل هذا النص ضمن دائرة الحداثة، ومع هذا فأن الاحداث لازالت تدور ولا زلنا نتابع المفاجآت التي سوف تحدث، فبعد عودته من رحلة العلاج هذه يقابل هادي ويخبره بما حدث له، ويستفسر منه عن تلك التفاصيل، الا أن هادي ينفي تماماً هذه الاحداث، فيعيش دكتور عوني في قلق وخوف، ويعود الى الدائرة التي ضاع فيها باحثاً عن سني عمره الضائعة، فيكتشف أن عقله الباطن قدم له احداث مستقبلية تنبؤية، وبالفعل بدأت الاحداث تخرج من العقل الباطن الى الواقع:
( الحوادث كثيرة وطويلة، لكن ابرزها هي زواجك من سناء وقتلك اياها حتى تسببت بدخولك الى السجن ، أما فرح فهي سكرتيرة جديدة وظفتها بعد أن دخلت أنت السجن، تزوجنا وعشنا حياة سعيدة، بعدها اختفت من حياتي ولم أرها بعد ذلك، حيث تعرضت الى إختطاف من قبل رجل يعمل في مديرية الأمن، عذّبها بشدة وافقدها النطق، رجعت لي بعد فترة غياب طويلة، بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها، لكنها تركت لي رسالة موقعة بأسمها، لا أدري قد تحصل معجزة وأحصل عليها..) ص 259.
وهذه الاحداث التي خرجت من العقل الباطن الى رؤية مستقبلية شكلت حالة غرائبية ضمن النسق الفني الذي اتخده الروائي في دورة الاحداث، المتداخلة المتراكبة برؤية فنية جديدة تنضم الى عالم السرديات الحديثة، بخروجها من التقاليد المتبعة الى حيث علم النفس وعملية التنويم المغناطيسي، وخروج من التوقعات التي قد تكون صائبة احياناً، ونكون مع المفاجأة الكبيرة في نهاية المطاف والتي تؤكد تلك التنبؤات:
( وبينما هو منشغل بتذكر تفاصيل الحلم الغريب حتى طُرق الباب بطرقات خفيفة لا تكاد تسمع، نهض متثاقلاً ونشوة الحلم مازالت تداعب عقله، فتح الباب بغير اكتراث حتى ظهرت له فتاة أنيقة جذابة تقف على إستحياء، رحب بها ودعاها الى الدخول، فأخبرته بصوت خفيض أنها جاءت لأجل الإعلان ، تهلل وجهه وأدخلها وهو يحفها بكلمات الترحيب، أجلسها قبالته وراح ينظر إليها فوجهها كان مألوفاً وكأنه قد رآه من قبل، فسألها عن إسمها متحفزاً.. نظرت في عينيه وجاء صوتها عميقاً كأنه قادم من ماض بعيد.. إسمي فرح.) ص 285 .