علي سعدون
مما لاشك فيه ان رواية «للشمس وجه اخر»* للروائي تحسين علي كريدي، تفتح الباب على صورة فوتوغرافية تتلخص بقمع الانظمة الشمولية للأفراد والجماعات بطريقة بدائية ووحشية، وهي صورتها الحقيقية على مدى خمسين عاما. لكنها في الاخير صورة نمطية من صور الديكتاتورية، تتعامل معها مختلف الروايات. وقد يبرر لها الاهتمام البالغ بمستويات السرد ونمو الشخصيات او انحسارها على حد سواء. اقول قد تعمل عناصر البناء الفني لتبرير مثل تلك النمطية، لكنها ستظل تلمع كلما اشتد ليل الرواية وسردها وطفت على السطح اسئلة الجدوى والنفع من اجراء مثله، اي ان النمط سيظل علامة فارقة في روايات من هذا النوع.
الامر الذي يدعونا لنتساءل عن امكانية التخلص من الصورة النمطية التي تحد من قدرة الرواية على التجاوز في الرؤية والمعالجة واسلوب اللغة. لاسيما وان رواية مابعد الحداثة هي رواية تقريرية مباشرة تعمل على تنحية التداعي والمونولوج الداخلي وتبتعد كثيرا عن الزخرفة والديباجات في صنع المشهد والتمهيد له وصولا الى تصاعد اللغة في تتويج مشهدياتها.
اعتقد جازما ان التعامل بنوع من الذكاء مع السرد بوصفه جوهر بناء الرواية هو الحل الوحيد الذي يهشّم الصورة النمطية في الرواية، تكرارها لمشهديات بعينها من قبيل : السجن – سجن التسفيرات في العمارة- كما في رواية للشمس وجه اخر، الهروب من البلاد الى دولة مجاورة، معارضة النظام بلا موقف، العودة الى المنفى كخيار يختطه الروائي للخلاص من ربقة الاستلاب والقمع الذي يرزح تحته، صورة الحظ العاثر الذي يحصر المرء بزاوية حادة لا يستقيم معها الشعور الوطني في محبة البلاد الخ.. هذه الصور تكاد تكون فوتوغرافية بسبب من رسوخها في ذهنية القارئ، الذي سيحتاج الى جرعة من التعارضات والحفر العميق في طبيعة تلك العلاقة – علاقة المستلَب والمقموع بالسلطة القامعة – من خلال علائقية متجددة وبمشهديات غير متوقعة لتعزيز قدرة الرواية على تجاوز النمطية. ونستطيع ان نتلّمس نوعا من التجاوز الحرج لتلك النمطية في هذه الرواية – على الاقل ببعض من مشهدياتها – . وإن كان تجاوزا طفيفا ولم يتسع ليكون علامة شاخصة من علاماتها.
ان اجراء تأثيث السرد بحكايات مختلفة عن اولئك المغلوبين في الحياة العراقية، وجعلها تنمو بجوار الشخصية الرئيسة «وسام» في هذه الرواية، ستبدو للوهلة الاولى هروبا من صناعة الدينامية الفاعلة لشخصية البطل وتشتيتا لرؤيته التي تقف قبالة الموقف من الحياة بعد وقوعه في براثن قبضة السلطة بلا سبب وبلا رحمة وصولا الى انها كانت بلا معنى ايضا!.، في اشارة الى ان السلطة لم تكن تنتظر وجود المعنى لاقتراف اي من جرائمها. لكن طريقة السرد في الاتيان بتلك الحكايات المجاورة لحياة البطل جعلت من الرواية، معنية بحيوات الاخرين اسوة بالشخصية الرئيسة في الرواية. وهو ما يحقق انفعالا وتواشجا لدى القارئ الذي يتتبع مصير الشخصيات كلها، لا شخصية البطل وحده. فبقطع النظر عن نوع الاسباب التي جمعت كل هؤلاء الفتيان في قاعة سجن واحد هو بمثابة صورة مصغرة للحياة العراقية نفسها ابان تلك المدة التاريخية. واذا ما كانت التعضلات الاجتماعية المتعددة في حياة التسعينيات جاءت بهؤلاء الفتيان الى هذا المصير، فقد تدافعت الشخصية الرئيسة لهذا المصير بالاستناد الى العاطفة المشبوبة بالفطرة التي اعادته من بلد حر كـ»فرنسا» تحت ضغط نواح الام، وبذلك صارت الانتقالة الموحشة لديه من خلال تعاقب الازمنة التاريخية الحادة (زمن عراقي بلا معنى / زمن فرنسي بمقصديات الحياة الطبيعية)، اذ لن يتبقى من معنى لذلك الانتقال الموحش حتى بعد ان نتعرّف على حميمية ذلك النواح الذي تذرفه الام لتخريب حياة ولدها الوحيد دون قصد بطبيعة الحال.، لأننا سننشغل بطبيعة النقلة التاريخية اكثر من انشغالنا بالنواح بوصفه صورة ساذجة من صور غياب المعنى في الحياة العراقية.
ان التأسيس لتلك المشهديات لم يكن متناغما تماما مع الصورة التي يراد لها ان تجترح خطها الافقي في الخروج عن النمطية التي تحافظ عليها خصوصية الحياة العراقية ، فمثلا سيمر الكاتب على مشهد عابر في الرواية متجاهلا الجدل الهوياتي والثقافي الذي يفيض عميقا في هذه الصورة. ما اعنيه هنا، ان نظرة شعبوية لتوصيف سكان الاهوار ستنتظم في فوتوغراف تأسيسي في مقدمة الرواية : «اناس فقراء لايعرفون وطناً غير الهور.. طيبون وساذجون لم تفسدهم رذائل المدنية والتحضر» } الرواية ص 19 {. وبتقديري الشخصي فان ما يسميه «كريدي» بالرذائل والتحضر هو صورة مظلِلة للمدينة التي كانت شبه ملائكية في الستينيات والسبعينيات فضلا عن ان سمة التحضّر كانت صفة طيبة من صفات المدنية، وبالمقابل لم تكن صورة الاهوار ملائكية ولا ساذجة، انما كانت حاضنة رئيسة لحركة اليسار العراقي من الستينيات لغاية التسعينيات وكانت تجترح الصورة العنفية في كثير من تفاصيل ذلك الفوتوغراف، على الرغم من شيوع السذاجة في صورتها النمطية، وربما مرد ذلك يعود الى طبيعة الحياة الخاصة المغلقة لثقافة سكان الاهوار، بمعنى اكثر تحديدا ثقافة الهور وخصوصية الحياة فيه جعلته عصياً على الفهم في فوتوغراف مثل هذا الذي يجري في رواية للشمس وجه اخر.. الطرفان غير ملائكيين ولا علاقة للرذيلة بوصفها توصيفا قاسيا وحادا، انما تناشز الامكنة بين (الهور – المدينة) يفصح عن تناقض حاد في طريقة المعيشة وطريقة التعامل مع الاخر.
ان رسوخ الصورة النمطية في رواية «للشمس وجه اخر» لايمكن عدّه نكوصا بقدر ما يمكننا فهمه على انه تأكيد للصورة التي تحتاج الى نوع من الاصرار لترسيخ حضورها في السرد، – صورة الفاشست غير القابلة للتزوير- فضلا عن انها – اي الصورة ذاتها- ، لاتقبل الخروج عن النمطية بسبب من صلادة التاريخ الذي يحيط بها. وهو تاريخ يتجدد على الدوام بسبب من تكرار النمطية العنفية في الحياة العراقية : شكل الدولة وارهاصات هويتها الوطنية وفوضى السلطة وتحكّم الجلاوزة في صناعة تاريخها، وعدم ادراكها لإشكاليات غياب المعنى في طريقة حياتها، وقد حفلت هذه الرواية بإشارات لهذه الفجيعة الاجتماعية التي بدأت ملامح قسوتها مع انهيار النظم المجتمعية وانساقها القارة منذ مطلع التسعينيات في العراق.
ان الخلاصة التي يتحصّل عليها القارئ في نهاية المطاف من هذه الرواية، ستقود الى فوتوغراف اكثر اتساعا، يشير الى تكرار صورة القمع الديكتاتوري لمرحلة فاشية تمتد الى زمنٍ طويل، تاركة عذابات ارواح الرابضين على ترابه مخربة ومشوهة ومستلبة بمصير حرج للغاية. هذه رواية ناجحة بتقديري الشخصي وقد بذل كاتبها جهدا طيبا في تقصي حياة واحدة من الشخصيات المستلبة في وطن ظل ينزف على امتداد تاريخه الحديث. لكن افق انتظار القارئ سيظل مفتوحا بلا نهايات في حكايا وقصص وسرديات تعنى بالديكتاتورية والفاشية. وهذه الرواية واحدة من تلك الروايات التي تفتح نافذة لإعادة انتاج الفوتوغراف الشخصي الذي اخذ حصته من القمع والتنكيل .