القسم الثاني
د. نادية هناوي
علاقة العنونة بالمتن
ويمكننا أن نعدّ هذا النص الافتتاحي أقرب إلى الشكل الشعري كقصيدة نص أو قصيدة دلالية، إذا ما وضعنا في بالنا علاقة العنونة بالمتن، وعرفنا أن واحدة من دلالات كلمة روشيرو أنها اسم لمكان حقيقي أثري يقع في قلب مدينة باريس هو عبارة عن مدخل لساحة تفضي إلى سراديب الموتى الذين وضعوا في مقابر تعج بالعظام والجماجم.
ولا غرو أنّ الافتتاح بهذا النص هو تدليلٌ على تجريبية روشيرو أولا وتوكيدٌ للتجنيس العابر ثانيا، وتعضيدٌ لمقصدية التضاد ما بين التجنيس والاشتغال التجريبي ثالثا.
وأول ملمح للتجريب يتمثل في توزع القصص بين أربع مجموعات فرعية هي على التوالي ( تعال لأريك / تمعن بتلك / تحدث معك ثلاثيات / تخيل ذلك مشاهد قصصية) ولكل مجموعة فرعية شكلا كتابيا يختلف عن الأخريات، من الناحيتين العددية والنوعية. فأما التوزيع العددي فكان تنازليا بدءا من المجموعة الأولى( تعال لأريك) التي حوت سبعًا وثلاثين قصة قصيرة، ليتناقص في المجموعة الفرعية الثانية( تمعن بتلك) ـ هكذا كتب في الفهرس بينما ورد في المتن (تمعن بذلك ) ـ إلى ست عشرة قصة، يغلب عليها قصر مساحة السرد، ثم إلى سبع قصص فقط في المجموعة الفرعية الثالثة (تحدث معك ثلاثيات)، وانتهى عند المجموعة الرابعة(تخيل ذلك مشاهد قصصية) بقصتين توزعتا بدورهما بين تسعة عشر نصًا قصصيًا.
أما على المستوى النوعي، فإن المراهنة تظل في حدود الشكل الذي سيتغاير في كل مجموعة من المجموعات الفرعية الأربع، ففي مجموعة ( تعال لأريك ) ـ التي تشغل النصف من الكتاب تقريبا ـ قصص ليست كلها قصيرة، لكنها موحدة بخيط موضوعي جسَّده الساردان الموضوعي والذاتي وهما ينسجان واقعا نصيا قاهرا، أهان الحيوات وسحق كرامتها وجعلها ذليلة. فالصغار طالهم الألم، والنساء أمهات بلا معين، والرجال مخمورون وعاجزون بسبب الحروب التي تركتهم وراءها أفردا محبطين ومتفرقين.
تحدث معك ثلاثيات
ويتخذ التغاير الشكلي في مجموعة( تمعن بذلك) صيغة زمانية تتناوب فيها الاسترجاعات والتنبؤات كقصة( ممكن؟ )بصيغة الاستفهام التي فيها يستبق السارد الاحداث إلى العام 2200. ويبقى الرابط الموضوعي هو نفسه في المجموعة السابقة، حيث الواقع المبتلى بصور الحرب وآثارها النفسية القاسية.
ويلعب الشكل الثلاثي في المجموعة الفرعية الثالثة( تحدث معك ثلاثيات) دورا محوريا فكل قصة قصيرة تتوالى في ثلاث وحدات نصية أقصر، يُفصل بينها بثلاثة أرقام ا، 2 ، 3 ، أو بثلاث كلمات فمثلا قصة الرب توزعت وحداتها بين الكلمات( صيام / عذاب / خلاف) وقصة جسد إلى( خيط / شبكة/ ثلاجة) وقصة الرئيس إلى ( صورة / فحولة / اغتيال) وقصة تك تك تك إلى(تك / تك تك / تك تك تك) وبعض الوحدات تتعدى القصر إلى ما هو أقصر.
ويعمل التداخل الاجناسي بين بنيتي السرد والدراما في المجموعة الفرعية الرابعة( تخيل ذلك مشاهد قصصية) على استلهام درامية المغالطة التراجيدية التي هي عنصر من عناصر البناء المسرحي، بسببها تتجه الشخصية/ الساردة إلى مصير تعيس ليس لها يد فيه. وقد توزع التعبير عن هذا المصير بين مرحلتين هما عبارة عن مشهدين سرديين، المشهد الأول عنوانه( دنيوية) والمشهد الثاني عنوانه( أخروية).
وعلى غرار التجريب الشكلي في المجموعات الثلاث السابقة، يأتي المشهد الاول موزعا بين نونات سبع اتخذت كل نون شكل قصة قصيرة جدا وبعنوانات فرعية، العنوان الاول ( نون أولى)، والثاني( نون ثانية) …وهكذا يتصاعد الترقيم إلى العدد سبعة.
وعلى الرغم من هذا الفاصل العنواني؛ فإنَّ المشهد يظل واحدًا. وكذلك الحال مع المشهد الثاني الذي هو أيضا قصة قصيرة واحدة، وإن تضمنت اثني عشر نصا اتخذ كل نص شكل قصة قصيرة جدا، تتوالى بالتتابع. وتستل كل وحدة عنوانها من الكيفية التي بها يتصاعد الحبك، وبما يجعل كل نص يكمل النص الذي يسبقه، سامحا للنص الذي يلحقه أن يتم سرده.
فالنص الأول يبدأ هكذا ( لا أذكر كيف متُّ، فالكثير كان يعمل على ذلك ) يكمله النص الثاني بادئا بــ( الجنازة كانت مميزة جدا أهلي واقربائي أصدقاء كثيرون، عامة الناس كون الموت لم يكن عاديا بل كان قتلا) ص152. ولو أننا قرأنا النصوص من دون عناوينها لما كان هناك أي فارق في التوصيل.
وبالمغالطة التراجيدية التي يفضي إليها المشهدان القصصيان الدنيوي والاخروي، تتضح وحدة القصص الموضوعية على اختلاف مساحاتها وتفاوت التجريب فيها، كما تبان بساطة واقعية البين بين التي أرادها السارد امرأة مارقة من ولهٍ وعبث ولذة. وقد تجسدت هذه الما بينية الواقعية في التمثيل السردي أولا، وثانيا في التجنيس العابر الذي جعل القصة القصيرة تحتوي في داخلها تنويعات سردية جمعت القصة القصيرة بالقصيرة جدًا وأنواعًا أخرى، وبذلك اتسع قالب القصة القصيرة هاضماً كل صور التجريب المتاحة وعابراً عليها.