اعتدنا في هذه البلاد على وضع الثقافة في منزلة أدنى من غيرها، ومكانة أقل من سواها. وبتنا نعدها من زخرف القول أو من فضول الكلام. ولم نعد نخشى أن تخلو الأرض من مشتغل بها أو عامل عليها. وهي خلاصة التجربة الإنسانية في هذا الجزء من العالم.
وبسبب ذلك تضاءل عدد الأسماء الكبيرة الذي تميزت به العصور السالفة. وأصبح المعول على ما يرد من وراء الحدود من طوفان فكري. فتراجعت الحياة العقلية في المجتمع، وتفشى الجهل بين الناس.
قد لا يعرف البعض أن الثقافة ركن أساس من أركان الدولة، وعامل جوهري من عوامل بقائها على خارطة العالم. وقد لا يخطر على باله أن الجغرافيا السياسية تضعها على رأس قائمة الأولويات، جنباً إلى جانب مع أمور أخرى طبيعية. فالحدود الدولية المعترف بها تتمدد بتمدد الثقافة، وتتسع باتساعها. والدول تعيش بها وتضمحل باضمحلالها. وقد وضع (فريدريك راتزل) جملة قواعد نشرها عام 1897 أثبت فيها أن الدولة كائن حي، تكبر بازدياد عدد سكانها، وتنمو بتعاظم إمكاناتها. ومعنى ذلك أن الحدود ليست ثابتة دائماً، بل تتغير بتغير موازين القوى المادية والحضارية. وفي الماضي تحولت الدولة الإسلامية إلى قوة كبرى بظهور الثقافة الجديدة، التي بزغ فجرها ذات يوم في مكة. وتمكنت العربية من الهيمنة على الحياة في نطاق واسع. أما في العصر الحاضر فإن التقهقر الفكري الحاد هو الذي سمح بهيمنة الغرب على هذه البلاد،
وتراجع الثقافة هو الذي جعل بلداناً عربية عريقة تنشطر على بعضها بالفعل مثل السودان، أو توشك على الانشطار، مثل العراق واليمن.
هناك عوامل أخرى بالطبع تدخل في هذه المعادلة مثل الموارد والسياسة والعلاقات الدولية والمصالح، فالثقافة ليست هي المؤثر الوحيد في بقاء الدولة، لكنها الأهم بينها جميعاً. فالجغرافيا السياسية تقوم على تحليل علوم مختلفة وكثيرة, مثل التأريخ والاجتماع والفلسفة واللغة والأدب والفن .. وكثيراً ما كانت هذه المعارف الشغل الشاغل للمفكرين الكبار في عالم السياسة. وقد يفسر هذا لماذا حرصت بعض الدول على نشر لغتها في أماكن كثيرة حلت فيها فاتحة أو مستعمرة مثلما حدث في إفريقيا والأمريكتين.
بل إن مفهوم الوحدة العربية الذي كان سائداً طوال القرن الماضي، نما بظهور عدد غير يسير من رجال الثقافة العرب، الذين كانوا علامة فارقة على عصرهم. لكن هذا المفهوم سرعان ما تراجع لغلبة عوامل أخرى مضادة على الساحة مثل التغريب، أو الإيمان بالنمط الأوربي في العيش والتفكير والقوة والعلاقات الأسرية، وازدراء الموروث، وغير ذلك..
إن الثقافة الخاصة بشعب من الشعوب هي التي تقوم بتوسيع رقعته الجغرافية. وهي التي تصنع الدولة القوية، والوطن المصان، والشعب الجسور. وهي التي تعطي الشرعية للمال والسلاح. أما التخلي عنها لصالح أمم أخرى فليس وراءه غير التفتت والضعف، والتخلف والضياع.
محمد زكي ابراهيم