يكتب آرثر آسا بيرغر: (ان تعرض جهازنا الحسي لوابل مستمر من الصور السريعة، الحركة والموسيقى، والمؤثرات الصوتية، يؤدي في نهاية المطاف الى أن تصبح قدرتنا على اتخاذ قرارات عقلانية ازاء أي شيء أمراً صعباً). هذه الخلاصة المكثفة التي دونها لنا أحد أهم خبراء الاعلام الحديث، تكشف لنا عن مدى تعقد وعسر مهمة فهم ما يجري لنا وحولنا، على العكس مما يتوهمه البعض، من سهولة الوصول الى المعلومة بفعل التطور الهائل في مجال تقنية الاتصالات والتواصل بين البشر. عندما يكون الامر هكذا في مجتمعات متطورة في شتى مجالات الحياة، ولا سيما منها الثقافية والتعليمية، حيث الحرص على تمحيص الامور والاطلاع على كل ماهو جديد، فكيف يكون الحال في مجتمعات اغتربت عن كل ما جرى من ثورات وزحزحات علمية وقيمية، على مدى قرون..؟ هل بمقدورهم وسط كل هذا الضخ الممنهج والصخب وسيول الصور والفيديوهات، المصنعة خصيصاً لدغدغة غرائز القطيع، وغير ذلك من مبتكرات مراكز البحوث المتعددة المواهب والاهتمامات؛ من الوصول الى قرارات عقلانية..؟
يمكن اقتفاء أثر ذلك بشكل جلي في المشهد العام لعراق ما بعد “التغيير”، من خلال الدور الذي لعبته وسائل الاعلام السمعبصرية ومواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً. وكل من يعرف شيئا عن القوى الفاعلة والمتخصصة في هذا المجال ومصادر تمويلها وترسانة القيم والافكار والاجندات التي تتغذى عليها، يدرك جيداً ما تعرض اليه “الجهاز الحسي” للعراقيين وبالتالي ما تبقى لديه من قدرة على “اتخاذ قرارات عقلانية” تجاه ما يجري لهم وحولهم. لأسباب وعلل تطرقنا الى الكثير منها في مناسبات سابقة، تحولت الحريات ومنظومة الحقوق وقيم التعددية، والتي أتاحتها حقبة ما بعد زوال النظام المباد؛ الى ما يشبه الرهينة بيد تلك “القوى الفاعلة والمتخصصة” وعبر واجهات وخطابات وعناوين تتناغم وما اهدتنا اياه “الفوضى الخلاقة” والتي لم تخلق سوى المزيد من الفوضى وانسداد الآفاق برفقة المزيد من المتاهات. لذلك كله تم افراغ ما وهبتنا اياه الأقدار العابرة للمحيطات، عبر استئصال الحكم التوتاليتاري وانطلاق ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية ومن ثم التأسيس للنظام الديمقراطي؛ من محتواه ومضامينه الوطنية والحضارية، وكان للتعددية الاعلامية المعطوبة الدور الريادي في شرعنة الاكاذيب وترويجها بوصفها جزء لا محيص عنه في ديمومة وبقاء سلطة الرسائل الخالدة وفلولها من شتى الواجهات والعناوين.
عندما نتفق على ما أشرنا اليه من خلل فاحش، في الحقل الأشد فتكاً في حياة المجتمعات والدول (الاعلام) سيكون بمقدورنا قراءة بعضا من الاستباحات والفضائح التي شهدها عراق ما بعد “التغيير”، ومنها على سبيل المثال لا الحصر جرأة وصلافة عدد غير قليل من جلاوزة وفلول النظام المباد ومرتزقته، وعدد غير قليل من سكراب وحطام الحركات السياسية، على امتشاق دور الاحرار والثوار المدافعين عن كرامة وحرية الاوطان والانسان. بالرغم من مرور أكثر من 16 عاماً على زوال الاستبداد، ما زالت سلطة وهيمنة الاكاذيب وسدنتها من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، باقية وتتمدد بفعل مستويات وشبكات الضخ والتي اتاحتها التقنيات الجديدة وبورصة غسيل الاموال. في المشهد العراقي الراهن يمكن التعرف على آثار ذلك الخلل البنيوي وخطورته، أي العجز عن “اتخاذ قرارات عقلانية” اينما توجهت وتجد المنتسبين لنادي سكراب الانتلجينسيا أشدهم حماسة. يقول الروائي والمفكر الليبي ابراهيم الكوني: “أن نعلم، أمر يختلف جذرياً عن أن نتلقى معلومة. أن نعلم يعني أن ننتبه، أن نعلم يعني أن نستيقظ”….
جمال جصاني