صونيا خضر
من بين عدة روايات لأسماء محترفة ولامعة، اجتهد كتّابها لتقديمها على أفضل نحو، مستوفية لأدوات الكتابة وعناصر الرواية الكلاسيكية التي تفوز عادة بالجوائز، تفوز «بريد الليل» لهدى بركات بأهم جائزة للرواية العربية، وتكسر كل التوقعات بهذا الفوز الذي يؤسس لمرحلة مبتكرة وجديدة، تعتمدها لجان التحكيم من جهة، والكاتبة من جهة أخرى، في تقييم وتقديم الرواية حسب معايير عالمية حداثية، تنحاز إلى المعنى، وتخرج من قيد الأدوات المتعارف عليها، من لغة وتقنيات سرد.
توخّت رواية «بريد الليل» السهولة اللغوية، ربما لأنها لا تجد سبباً لإرهاق القارئ وتضليله بالتفخيم والتكثيف، طالما أن السرد، على سجيته، يقوم بمهمة الكشف عن العوالم الداخلية لشخصيات العمل، ووصف البيئة المحيطة بهم بسهولة ويسر، وهذا ما يؤهلها لتأخذ مكاناً بين أسماء كتّاب معاصرين وعالميين استطاعوا، من خلال السهولة اللغوية، والقفز خارج أسوار الرواية الكلاسيكية، بأن يكونوا الأكثر مبيعاً، والأكثر قرباً من القارئ. ومنهم، على سبيل المثال، الإيطالية سوزانا تامارو، والفرنسي ديفيد فوينكينوس.
في بداية الأحداث، يجهز القارئ نفسه ليقرأ عملاً يدور في أجواء رومانسية وهادئة، بعيدة كل البعد عن اضطرابات الحداثة وعنفها، وذلك حين يبدأ بطلها الأول بكتابة الرسالة الأولى (كما سيفعل بقية الأبطال لاحقاً) إلى التي دعاها بـ»عزيزتي»، هو الذي لم يكتب رسالة واحدة في
«توخّت الرواية السهولة اللغوية، ربما لأنها لا تجد سبباً لإرهاق القارئ وتضليله بالتفخيم والتكثيف»
حياته، عدا عن رسالة وهمية تقلبت في رأسه طيلة حياته ولم يكتبها، كون المرسل إليه المنشود لا يحسن القراءة، وما من سبيل ليقرأها له أحد.
قدمت الراوية أول أبطالها، كما بقية الأبطال، من دون اسم، طفل وحيد مستوحش وخائف، تجره عربة القطار إلى مصير مجهول، يدفعه آخر المطاف، لكتابة رسالة، قد يكتبها أي رجل يصيره ذلك الطفل، الذي يحتفظ في ذاكرته بتلك الرائحة النتنة وقت كان في النقطة الفاصلة بين المصير والطفولة، وهي النقطة التي لم تعد فيها أمه هناك.
الرسالة الأولى، في هذه الرواية، والتي تنسحب عليها بقية الرسائل، تقدّم رجلاً مضطرباً، بكل تقلباته وألمه وتردده وندمه، وتدهش القارئ بكم الحبكات الفرعية التي تنسج حياة واحدة، يكون فيها الهروب المستمر من الحميمية دافعاً لحماية الذات التي لا تريد أن تعود إلى عذاب ما بعد النقطة الفاصلة بينه وحيداً، وبينه مع أمه، وقت كانت هناك، لتطرق الكاتبة قضية قلما تطرقت إليها الرواية العربية، وهي العلاقة الملتبسة بين الطفل والأم، التي تعتبر الحبكة الرئيسية في غالبية الحكايات والحيوات.
على سجيته، ودون أن يقصد، يعرض البطل الذي يطل في «بريد الليل» أولاً مكنونات فيها عناصر الثنائيات هذه في زمن السرد، ولا يربط بين كل ثنائية وأخرى إلا زمن السرد، وخيط رفيع تحرص الكاتبة على تركه في طرف كل حكاية، أو رسالة، لتقطب كل مربع من النسيج في المربع الذي يليه، ولو عن طريق الصدفة التي تمنح للنسيج تماسكه، ولو أنها صدفة غير مقنعة بالضرورة.وهواجس شخصية نرجسية، نزقة، لواحد من الرجال المضطربين الذين لا يفرقون بين هبة التستسرون ودقة القلب، فيصيب القارئ بنوبة كراهية وغضب، ويدفعه إلى إطلاق حكم جائر بحقِّه، لولا أن الكاتبة، وبدهاء شديد، توضح منذ بداية السرد، وخلاله، ومن دون أي مداخلات تبريرية، بأن هذه الشخصية ليست إلا تداع حتمي لشخصية نفتقد الأمان والطمأنينة، كما بقية شخصيات بريد الليل.
مثل حجارة الدومينو، يتهاوى أبطال «بريد الليل» واحداً تلو الآخر، وكلهم من دون أسمائهم، لفكرة في رأس الراوية ربما، بأن أي اسم، أو أياً كان، ومن دون أي اعتبارات للمكان، أو الزمان، يصلح لأن يكون كاتباً لواحدة من هذه الرسائل على الأقل. ولهذا تصبح أسماء الأبطال مجرد إضافة لا لزوم لها، في رواية تحرص كاتبتها على توظيف كل عبارة في مكانها الضيّق والصحيح، وتقنين كل حدث حسب حجمه تماماً، من دون زيادة، أو نقصان.
إذاً، «بريد الليل» هي رسائل يكتبها من يواجهون مصائرهم، من أجناس مختلفة، وفي أمكنة مختلفة، منهم العاشق النرجسي، والمرأة العالقة بالحكاية القديمة، والمجرم الذي لا يتورع عن تعذيب ضحاياه، والمومس التي تعترف بوظيفتها، والمثلي الذي لا تتقبله العائلة، هم شخصيات محتملة لأي مكان، أو زمان، تفرقهم الإحداثيات في هذه الرواية، وتجمعهم وحدة الحبكتين الضمنيتين، الأولى وهي العلاقة الملتبسة بين الطفل والأم التي تمنح ذرائع شرعية لما سيترسخ فيهم من امتيازات ذكورية، والثانية هي تلك الذرائع، التي تقودهم نحو مصائرهم من دون رحمة ولا تردد.
«بريد الليل» هي خمس رسائل بعناوين فارغة، عناصرها الرئيسية ثنائيات متعددة، لا تجتمع
«العالقون في وحل هذه الحياة عنوة، كلهم أبطال «بريد الليل»، الرواية التي تقدم الأسباب ولا تبحث عن حلول، بل تقدم الرؤيا، ومن زاويتين على الأقل، لتوضح الوجوه المتباينة للمشهد ذاته»
صدف مكررة ومراوغات كتابية، تستخدمها الكاتبة، لكي تصل الرسائل دائماً إلى غير المرسل إليه، فتحافظ على وحدة السرد من جهة، وتعرض شخصياتها المختلفة بكامل تفاصيلها من دون أي تأثير من واحدة على الأخرى، من جهة أخرى، لكي توضح جلياً، وفي رسالة ضمنية واحدة، أن هموم البشر، وإن لم تكن متشابهة، فهي مشتركة في أسباب حدوثها وتداعياتها.
المسافرون، نزلاء الفنادق، المنتظرون في صالات المطارات المكتظة بالعابرين، الوحيدون، المظلومون الذين يبحثون عن أدلة براءتهم، الواقفون أعلى التلة يقلّبون وجوه الحياة ووجوههم بين ما صار خلفهم، وما أصبح أمامهم، ويعرفون أن لا طريق للعودة إلى الخلف، إلا تخيلاً، العالقون في وحل هذه الحياة عنوة، كلهم أبطال «بريد الليل»، الرواية التي تقدم الأسباب ولا تبحث عن حلول، بل تقدم الرؤيا، ومن زاويتين على الأقل، لتوضح الوجوه المتباينة للمشهد ذاته، وأثر زوايا الرؤية تلك، بانحراف الحياة عن محورها العادي إلى المصير الذي لا يسعى إليه أحد.