عشوائيات !

كلما سنحت لي الفرصة بالتجوال في بعض القرى النائية، أو الواحات المتناثرة في قلب الصحراء، كلما شعرت بالبهجة. ليس لأنها ماتزال تفوح برائحة الخضرة، بل لأنها تناضل من أجل البقاء، وتتمرد على قوانين العصر. وأحمد الله أن هناك من تستهويه مهنة الفلاحة، ويرعبه منظر الأحياء المكتظة، الخالية من أي ذوق أو نضرة أو وداعة، أو جمال.
كان الريف بكل ما جبل عليه من مشقة وقلة حيلة هو الرافد الأول للمدينة. فهي تكبر على حسابه، وتتوسع بالنابهين من أبنائه. وفي كل عام ينتقل عدد كبير من الشبان بحكم العمل أو الدراسة للإقامة فيها. قال بعضهم إن الذين يحرثون الأرض ويشذبونها، هم في العادة أقل قدرة على حراثة أنفسهم وتشذيبها، لأن الفلاحة لا تترك وقتاً شاغراً للثقافة. أي أن الريف ليس المكان الملائم لنمو هذا العامل الحيوي الخلاق.
ولا أعلم إن كانت هذه العبارة مطلقة أو أنها تنطبق على نطاق بشري بعينه. فبحسب علمي أن سكان الأرياف لديهم من الوقت الشاغر ما ليس لغيرهم. فهم – في العراق على الأقل – يقتلون الوقت بالنزاعات ويتسلون بمجالس الصلح، ويعيشون على محصول موسمي واحد، ثم يستريحون طيلة المواسم الأخرى! وقد يتضاءل هذا الموسم أحياناً، حتى يقترب من الصفر. وتنتفي عندها الحاجة للبقاء في الأراضي الموات.
كان الناس يعتقدون أن الريف هو الذين يهب الحياة للمدينة، وهو الذي يمدها بالطاقة التي تفيض عنه. لكن ما حدث أخيراً، لم يترك فاصلة ما بين الطرفين. فقد سئم الريفيون بيئتهم التقليدية، وقرروا غزو المدينة. ثمة من يعتقد الآن أن الثقافة انتصرت في النهاية، وأن العشوائيات التي باتت تطوق المدن من جهاتها الأربع، قادرة أن تتعهد هؤلاء بالحراثة والصقل والتهذيب، مثلما فعلت في الماضي.
ربما يبدو هذا نوعاً من الخيال الجامح. فالثقافة هي فن اتباع القواعد، والتطبيق الملهم للأنظمة والقوانين. ومثل هذا التعريف يعكس أزمة حقيقية. ذلك أن الفارق الحقيقي بين المدن والأرياف لا يكمن في اللكنة أو المشاغل اليومية، بل بالانغماس في أعمال ناتجة عن جهد علمي أو ثقافي. كانت الفلاحة في الأصل ثورة ثقافية كبرى فجرها الإنسان قبل آلاف السنين، غيرت وجه الطبيعة، وستبقى كذلك إلى أمد غير معروف.
مهما تكن الحال فإن الريف في بلادنا توقف منذ زمن عن إنتاج نخبة جديدة، بعد أن خسر مساحاته الخضراء. وتحول أبناؤه للسكنى في نسق جديد، لا لون ولا طعم ولا رائحة ولا هوية له، اسمه العشوائيات. مثل هذه التجمعات عاجزة عن العطاء الحقيقي، الذي كانت تنتجه القرى في الزمن الغابر. لأنها شكل غير مألوف من الاستيطان البشري. وستبقى كذلك حتى تتحول عن شكلها الناتئ هذا، وتعود مرة أخرى إلى طبيعتها السابقة، أو تنتقل إلى نمط آخر من أنماط العيش في هذه البلاد.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة