بمقدورعينتنا هذه ان تزودنا وجميع المتابعين لشؤون عراق ما بعد “التغيير”؛ بالكثير من الوقائع والمعطيات الفعلية لما يحصل على أرض الواقع من دون رتوش ومساحيق وتزويق، حول الديمقراطية وما يسبقها من تحولات ما يطلق عليه بـ (مرحلة العدالة الانتقالية) وغير ذلك من شروط ومستلزمات اجترتها وسائل ومنابر اعلام الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور هذا الوطن المنكوب بمنقرضات العصور الغابرة. انها حول ما جرى في سيطرة “اللج” بين محافظ واسط وضابط تلك السيطرة. تلك الحادثة التي تنناولتها وسائل الاعلام المختلفة ومنابر التواصل الاجتماعي بشكل واسع، وبما يتناغم والتمترسات وتقاليد الفزعات المهيمنة على تلك البيئات. كان بمقدور المحافظ ممارسة دوره الرقابي والتنفيذي بشكل يتناسب ومكانته الادارية والقانونية، من دون الحاجة الى تلك “الدفعة” التي دخلت الى سجل “غينتس” للارقام القياسية، بوصفها اغلى دفعة في تاريخ “سناين” القبائل والعشائر على مر التاريخ، حيث تتحدث الأخبار عن دفع عشيرة المحافظ لأكثر من اربعة مليارات دينار كفصل عن تلك الدفعة المشؤومة لضابط تلك السيطرة وعشيرته.
غير ذلك المبلغ الاسطوري الذي شفطته تلك “الدفعة” التاريخية، هناك جانبها الفضائحي، والذي كشفت عنه السطوة الفعلية لمؤسسات ما قبل الدولة (قبائل عشائر وطوائف و..) على ما صدعوا روؤسنا به أي (دولة القانون) والتي كشفت عن حجمها الفعلي مع تلك العينة العابرة فيما يطلق عليه بـ (العراق الجديد). الكثير من الذين تجبرهم حياتهم واعمالهم ووظائفهم على المرور عبر تلك السيطرة “اللج” يعرفونها بوصفها أحدى أكثر السيطرات اذلالاً وازعاجاً، والمحافظ نفسه اطلع شخصياً في تلك الحادثة على نوع الممارسات والاساليب التي تتبع فيها، لكنه ومن خلال “دفعته” المشؤومة، قدم كل الذرائع والمبررات كي يتحول مسؤول تلك السيطرة الى بطل قومي وشرطوي، حيث انبرى وزير الداخلية الجديد لنصرة ذلك الضابط والاحتفاء به، ليذهب الجانب الاهم في تلك القضية أي الشعار الطنان (الشرطة في خدمة الشعب) الى مقابر النسيان. كما اشرنا لقد فرط المحافظ بفرصة النهوض بمسؤولياته على أفضل وجه، ومن خلال خضوعه للقانون العشائري المتخلف قدم انموذجاً يتنافر وأبسط وظائف المسؤول في مؤسسات تحترم نفسها وتسترشد بالمبادئ الدستورية الحديثة.
ان هذه العينة وغيرها الكثير، تؤكد ما اشرنا اليه مرارا وتكرارا من ضرورة التخلي عن منهج الترقيع في التعاطي مع مثل هذه الملفات ولا سيما التي تتعلق منها بالوزارات والمؤسسات التي تقتضي وظائفها التعاطي المباشر مع الناس، والتي تقف وزارة الداخلية على رأسها. ان آخر ما نحتاجه هو اعادة الروح لشعارات من نوع “انصر اخاك ظالما أو مظلوما” وغير ذلك من خرط قتاد عصور ما قبل المغفور له كوبرنيكوس. اننا بحاجة الى ذلك الذي فقدناه منذ زمن طويل؛ الى سيادة ووعي ضرورة القانون للجميع ومن دون تمييز على اساس “أولاد الست وأولاد الجارية”. ان حادثة “اللج” برهنت وبما لا يقبل الشك على اننا لا عاجزون عن نصرة المظلومين والحق والعدل وحسب، بل اننا مدججون بكل هو متنافر وتلك القيم التي وصل اليها حتى الاشقاء من قبائل الهوتو والتوتسي، الذين رموا تلك “السناين” الى متحف المنقرضات…
جمال جصاني