نهاية السعينيات من القرن المنصرم تورمت مفردة “الصحوة” لتتمدد وتستلقي بكل ثقة واسترخاء على تضاريس مضاربنا؛ المسكونة بالسبات والاغتراب الطويل عما يشغل سلالات بني آدم من هموم وتحديات. ثمار هذه “الصحوة” وحصادها لم يعد محصورا بين ديباجات التنظير وانتظار الفردوس المفقود، لانه تحول الى واقع بعد أربعة عقود من ولادتها الميمونة، حيث جسدت عصابات داعش الارهابية سنامها الاعلى باعلان قيام “الخلافة” على ولايات العراق والشام صيف العام 2014. بعد أكثر من اربعين عاماً من الهرولة خلف هذا السراب المميت “الصحوة” وبعد وقوع الفأس على رأس الامة التي اريد لها أن “تكون وسطا”؛ اكتشف الكثير منا هويتها وملامحها الفعلية وقدرات دمارها التي لم تستثن بلدانها الام كمصر (مسقط رأس جماعة الاخوان) والسعودية (منبع السلفية والوهابية) وايران (جمهورية ولاية الفقيه). فمصر تقهقرت على شتى الجبهات المادية والقيمية برفقة بركات هذه “الصحوة” وقد عبرت كلمة محمد حسنين هيكل بعد اغتيال من دغدغ واستثمر في تلك الصحوة وتملق لهم باسلمة دستور مصر، بدقة عن ذلك الوهم القاتل: “قتل الرئيس المؤمن بالرصاص الأشد ايماناً” لتنحدر اليوم الى ماهي عليه من مأزق حضاري وتاريخي حيث العسكر من أمامها وجماعة الاخوان من وراءها. أما السعودية فقد اعترفت وعلى لسان ولي عهدها محمد بن سلمان؛ بانها قد شطت بعيدا عما اسماه بـ “وسطية الاسلام” بعد حادثة احتلال الحرم المكي (1979) من قبل جهيمان العتبي وجماعته السلفية المحتسبة، وتأثير ذلك على باقي بلدان الخليج والدول السائرة في فلكها كالسودان والباكستان و…
أما بلاد فارس فقد وفرت من خلال تبنيها لنظرية “ولاية الفقيه” كل ما تحتاجه قوى التشدد والتطرف في المعسكر الآخر، كي يصعد من حربه التعبوية ضد الآخر المختلف طائفياً، لتجد المنطقة نفسها تنحدر الى سلسلة من الحروب والنزاعات والهموم والاهتمامات، عادت بشعوبها من شتى الرطانات والهلوسات والازياء الى ثارات القرن السابع الهجري. ان جميع هذه التجارب التي سعت الى تبني سبيل الاسلمة “الصحوة” كبديل عن مواجهة التحديات الفعلية لهذا العصر (اقتصادية وتشريعية وسياسية وثقافية ومعرفية وقيمية…) لم تفشل وحسب بل الحقت بضحاياها افدح الخسائر والاضرار، وما تجربة السودان الحالية وما جرى لهم من كوارث برفقة جنرال الاخوان (عمر البشير) والجماعات الاسلاموية، وعواقب ما بعد زوال شخصه عن الحكم بعد ثلاثة عقود من اللصوصية والاجرام؛ الا دليل واضح على حقيقة هذه “الصحوات”.
ان حقيقة هذه “الصحوات” بعيدة تماماً عما تختزنه هذه المفردة من مناخات وشروط واستعدادات؛ يمثل سنامها الاعلى استرداد العقل لمكانته ودوره في صناعة الوعي والهمة للنهوض مجدداً للحاق بركب الامم التي اكرمتها الاقدار بالتحرر من حقب العبودية والذل والظلام، وهذا ما لم يحصل لدينا وحسب بل رافق تلك الصحوة المزعومة اندلاع حرب منظمة وشعواء ضد كل من تسول له نفسه بالتقرب من العقلانية والحداثة المارقتين بنظر عرابي الصحوة من مدرسة المودودي وسيد قطب وباقي قوافل “التكفير والهجرة”. وما الحرب التي شنت ضد طه حسين وكتابه (في الشعر الجاهلي) الا مثال على بواكير تلك الصحوة الزائفة التي اغتالت لاحقا فرج فودة وطعنت نجيب محفوظ وابعدت نصر حامد ابو زيد، واغتالت حسين مروة ومهدي عامل.. لينتهي الأمر بعيال الله لأن يشدوا الرحال بعيدا عن الولايات التي وصلت اليها جحافل هذه الصحوة المشؤومة..
جمال جصاني