أحمد الشطري
في روايته الصادرة عن دار شهريار في 2017تحت عنوان (اصوات من هناك)، يفتح لنا الروائي نعيم آل مسافر من خلال عنوان الرواية نوافذ دلالية متعددة، فرغم معرفية اسم الاشارة (هناك) الا ان سعة افق المشار اليه تجعله مفتوحا على جهات متعددة لا يمكن تحديد ابعادها الزمكانية؛ فهي مفتوحة باتجاهات متداخلة، ومتعاكسة، ومتوازية في آن واحد. انها مساحة هلامية لا يمكن ترسيم حدود لها، وهذا الانفتاح الزمكاني اعطى بعدا هلاميا للأصوات المشار اليها، فهي، وان وضع بعضها الروائي في إطار ما سجله في روايته، الا انه هيأ دواخلنا للتحري عن الاصوات التي لم تفتح بوابات همسها له، وهو بهذا يضع القارئ امام تحد ليختبر قدرته على اكتشاف همس الاصوات الاخرى المحيطة به، وتحفيزه على ازاحة الغشاء المانع من الاصغاء لها.
ولعل الروائي من خلال تنكير مفردة (اصوات) اراد ان يضفي عليها عمومية القصد بدلالة عتمية الجهة المشار اليها. ولعل هذا هو ما جعل نوافذ ابعادها الدلالية مفتوحة على أكثر من فضاء.
وقد عزز هذا الانفتاح الدلالي للعنوان من خلال تعدد اصوات الرواة، حتى نكاد ان لا نحس بوجود شخصية الروائي، لولا ذلك المدخل الذي احالنا الى همس شخوص الرواية، فلم يكن الروائي سوى مصغ لذلك الهمس شأنه شأن اي مصغ آخر، وكأنه اذ اوهمنا بتخليه عن متعة الهيمنة على عوالم الرواية، اراد ان يشاركنا متعة الانقياد اللذيذ لهمس تلك العوالم، او اراد ان يوحي لنا بانه مدعو اخر مثلنا للبحث عن اصوات هامسة في فضاءات، وازمنة اخرى.
ولعل شخصنته للاماكن هي دعوة اخرى؛ لمحاولة اكتشاف همسها باعتبارها خازن دائم لأسرار، ومشاهد لا تنضب.
ومن معززات ما افترضناه سالفا: هو تلك النهاية التي جعلها مفتوحة، سواء بالإيحاء المباشر، او الاستنتاج الافتراضي:( جلست التحضير -(الارواح)-كانت تتصور انها لو تحدثت اليك وكتبت حديثها؛ فستظل مفتوحة داخل هذه الرواية،) الرواية-ص157. ومن الميزات الاخرى الجديرة بالإشارة: استخدام نعيم آل مسافر الموروث الميثلوجي في روايته، وجعله عنصرا فاعلا في تسيير احداث روايته؛ لما يمتلكه ذلك الموروث من هيمنة على شخوص الرواية؛ لارتباطها بالجوانب النفسية بما تشكله من اجواء رعب، وذلك ما ادى الى استخدامها كسلاح من قبل (غيلان) في تعزيز سيطرته على (تل ساسة)، والارض المحيطة به، فهو كان مصدر رزق له من خلال ما يستخرجه من لقى اثرية، وما يحصل عليه من زراعة الارض المحيطة به، وقد كانت تلك الكائنات الاسطورية مثل ( السعلوة والجن والطنطل وعبد الشط)، وسيلة ناجعة في ابعاد الفضوليين من اهل القرية. كما استخدم الروائي خرافة عملية تحضير الارواح كفضاء رمزي يتم من خلاله -ليس استنطاق الموتى؛ لسرد ما خفي من حكاياتهم-فحسب، وانما كدلالة على التواصل الروحي بين الكائنات الحية، وما يحيط بها كفضاء مفتوح لتلك الارواح لمواصلة الهمس المحفز للكشف.
ان المقطع الذي اعتمد فيه تقنية الراوي المشارك ثم اعلان تخليه عن تلك المشاركة لصالح شخصيات الرواية اعتمادا على الاسلوب (البوليفوني) هو بمثابة عقد تفويضي لتلك الشخصيات لممارسة سلطتها الحكائية دون ان يكون له اي دور توجيهي لذلك الحكي. وربما يدفعنا هذا للتساؤل: هل تخلى ذلك الراوي المتجسد بـ(الانا) في مستهل الرواية عن هيمنته على المحكي؟
ومن خلال تتبع مرويات اشخاص الرواية، ارى ان تلك (الانا) كانت تبرز من خلال قناع وهمي في بعض اجزاء المرويات، مراوغة ذات الروائي الذي اراد لها ان تكون بعيدة، واحسب ان حضورها كان قسريا عليه. في حين كانت تختفي في اغلب المرويات.
ان تعدد الاصوات الحاكية في رواية نعيم آل مسافر، وضعنا في دوامة زحام كبير في عملية تحديد الشخصيات الرئيسية للرواية، واستنادا الى تصنيفات فيليب هامون لشخصيات الرواية في كتابه (سيميولجية الشخصيات الروائية-ت-سعيد بلگراد) نجد ان الرواية قد وظفت التصنيفات الثلاث (المرجعية، والاشارية، والاستذكارية) في شخصياتها. ويمكن لنا ان ندلل على ذلك بالإشارة الى بعض هذه الفئات من حيث حضورها الدلالي الفاعل:
فقد شكلت شخصية (يوسف) بعدا مرجعيا من خلال الرمزية التاريخية للاسم، («تشابه مع فونيم او فونيمين اواسماء علم لشخصيات تاريخية» وتستخدم هذه الاسماء كنقطة ارساء مرجعية) فيلب هامون-ص40، وبعدا اشاريا باعتبارها أحد الاصوات الراوية للأحداث. اما كونها بعدا اشاريا فذلك من خلال عمليات الاسترجاع والاعتراف التي مارسها هو او رواة اخرون حوله. كما في حديث ستوكاديارز: (اسسني يوسف حول التل) الرواية-ص23
وقد يصادف ان نجد نوعا من (التوتولوجيا) في الرواية، وهو ليس من باب التكرار الحشوي، بل هو ناتج طبيعي – كما ارى-لتعدد الرواة، وهو جانب تعزيزي لحدث ما، او رؤية اخرى لذلك الحدث.
لقد حفلت الرواية بصراعات عدة اسست لتنامي الحدث الروائي، ولعل من بين اهم تلك الصراعات، هو ذلك الصراع الناشب بين (يوسف)، و(غيلان العاتي)، والواضح ان اختيار هذين الاسمين من قبل الروائي جاء؛ ليحملهما مدلولات رمزية تعكس طبيعة افعالهم داخل الرواية. وإذا كان نعيم آل مسافر قد ارتكز على الدلالة التاريخية لاسم يوسف بصفاته الجمالية الدالة على الخير، فانه ارتكز على الدلالة القاموسية لاسم غيلان العاتي، فالغيلان في بعض معانيه بكسر الغين: هو جمع غول و(الغول: هو نوع من الجن او ما اخذ الانسان من حيث لا يدري او ما ذهب بالعقل، والعاتي: الجبار) لسان العرب.
وهذه الدلالة تفضي بنا الى توقع ما تحمله هذه الشخصية من شرور. ومن خلال هذا (التقابل) نستطيع أن نفهم طبيعة تشكل هاتين الشخصيتين في رواية (اصوات من هناك) وفقا (لمفهوم سوسير). ينظر: سيكولوجية الشخصية الروائية-فيليب هامون-ت-سعيد بلگراد.
ومما يلاحظ من خلال قراءتنا لنتاج الروائي نعيم آل مسافر، والذي تعتبر هذه الرواية الثانية له، اصراره الواضح على توظيف الاثر التاريخي، فهو في هذه الرواية، وفي (كوثاريا) روايته الاولى، كان الاثر التاريخي حاضرا بل فاعلا في ربط احداث سردياته، وربما ملاحظة ذلك، ستكون باعثا في البحث في الأنساق المضمرة التي دفعت بالروائي آل مسافر الى هذا التركيز القصدي في عملية التوظيف هذه.
ان هذه الرواية بأسلوبها البوليفوني، والتوظيفات المثيولجية والانتربولوجية -لعلي لا اجانب الواقع إذا ما قلت-انها تشكل اضافة مضيئة للرواية العراقية، وهي جديرة بان تكون مجالا لدراسات، وقراءات متعددة.