بالرغم من مرور 16 عاماً على زوال سلطة حزب الرسالة الخالدة، والذي اختزلت رسالته بهلوسات ذلك المخلوق الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير؛ الا ان العراقيين فشلوا فشلاً ذريعاً في اعادة انتاج أحزاب سياسية بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم الذي استعانت به الامم الحرة لبناء دولها ومؤسساتها الحديثة. اربعة دورات انتخابية مرت من دون أن يلتفت “حكماء” هذا الوطن المنكوب و “عقلاءه” و “أوصياءه” الى هذا الخلل، والذي من دونه تتحول الممارسات الديمقراطية وعلى رأسها “الانتخابات” الى مرتع لمسوخ الاحزاب والتنظيمات وحطامها، وبالتالي الحاق أشد الاضرار وافدحها بأفضل وسيلة اوجدها البشر لفك الاشتباكات (صناديق الاقتراع)، وحشد المواهب والجهود لصناعة الاستقرار والامن والازدهار. وبفعل ذلك تم افراغ هذا النظام المجرب (الديمقراطية) من محتواه وغاياته القريبة والبعيدة، والتي اساسها الانتصار لحرية الانسان وحقوقه المنصوص عليها بوثائق ومدونات الامم المتحدة والاتفاقات الدولية بهذا الشأن. ان قطار الديمقراطية والعدالة الانتقالية لا يمكن له أن يسير على سكة الوصاية وما ترسمه بوصلة أحزاب “الرسائل الخالدة”. مثل هذه الحقائق والتي برهنتها الاهوال والكوارث التي حلت بعراق ما بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ لا يطيقها من نصب نفسه وصياً ووريثاً لذلك المخلوق الخرافي “الذي اذا قال.. قال العراق”. ومن يدقق جيداً بسياسة وممارسات الطبقة السياسية التي تلقفت زمام الوليمة الازلية “بستان قريش” على مستوى الحكومة الاتحادية والاقليم والحكومات المحلية وما يتفرع عنها من بلاوي ادارية وتنفيذية؛ سيجدها لا تحيد عن ذلك الارث وتقاليده وقيمه المميتة.
مع مثل هذه “الاحزاب” والجماعات والمؤسسات التقليدية، التي تكرس ثقافة الوصاية على المجتمع (أفرادا وجماعات)؛ سيبقى التخبط في المواقف والسياسات هو المهيمن على المشهد الحالي. ويمكن التعرف على انعكاسات وآثار ذلك، في كل هذا العجز الرسمي والشعبي الذي نشاهده في شتى تجليات الحياة المادية والقيمية. كنا بامس الحاجة الى ثقافة ووعي يستفز ما تبقى لدى العراقيين من عقل وفضول معرفي؛ كي يتمكنوا من النهوض مجدداً، بعيدا عن هذيانات الوصاية وروح القطيع والتي ولجت مع “أولياء الامر الجدد” الى أطوار لا تقل بؤساً وانحطاطاً عما عرفناه برفقة سدنة النظام المباد وشبكاته الاخطبوطية. ان أفضل الخطط والمشاريع تتحول الى مجرد خربشات ميتة، من دون استرداد المجتمع لحيويته وقدرته على اتخاذ القرارات الحرة والشجاعة، وهذا ما لم ولن يحصل في ظل هذه المناخات والاصطفافات المثقلة بكل ما هو متنافر وقيم الحرية والتعددية والحداثة.
لقد تضمن دستور العراق الجديد الكثير من الحقوق والحريات، لكنها لم تخرج عن حدودها النظرية، فهي تحتاج الى وعي وقوى ومؤسسات قانونية مستقلة، وملاكات حرة كي تتحول من امكانية نظرية الى واقع، وهذا ما لا يتوافق وما تضمره “أحزاب الوصاية الخالدة” من غايات وخطط. هناك الكثير من المشتركات والهموم التي تجمع بين النظام المباد وورثته الحاليين، أبرزها الحرص الشديد لهما على ديمومة الخوف والجهل بين أوساط المجتمع، حيث ابتكر الورثة الجدد وسائل وطرق اضافية لتشديد قبضتهم على ما تبقى لحشود المرعوبين، من رغبة لاعادة اكتشاف عقلهم وارادتهم المستقلة، عبر الاستعمال الواسع والممنهج للدين والنزاعات الطائفية في الوصول الى غاياتهم السياسية والفئوية الضيقة، وبالتالي تقليص حظوظ الوعي الكفيل بتحريرنا من الخوف وما يرافقه من هلوسات وحماقات تلحق أبلغ الضرر بحاضر ومستقبل العراق .
جمال جصاني