ما الذي جرى في مثل هذه الأيام من شهر نيسان العام 1980؟ ما خلا عدد قليل ممن ما زال يقبض على ما تبقى لديه من عقل وضمير، من المتابعين للوجع والضيم العراقي وتجلياته الغرائبية، اضافة الى ما تبقى من تلك الشريحة المنكوبة، التي عصفت بهم محنة التهجير والتغييب وكل أشكال الاهانة والتعذيب؛ لا احد يعرف شيئاً عن مثل هذه المحطات البشعة في تاريخنا الحديث، حيث ارتكبت أخطر الانتهاكات بحق شريحة (الكورد الفيليين) قدمت الكثير من الامكانات والتضحيات في سبيل نصرة قضايا العراق وتطلعات سكانه المشروعة. أسر عراقية آمنة تستفيق على صرخات مسوخ البشر (من سلالات قطعان الحرس القومي وبناة داعش لاحقاً) ليتم حشرها في شاحنات تنقلهم الى حيث المعتقلات والتي يتم فيها فرز ما لا يقل عن 20 ألف شاب منهم، لا لجريمة ارتكبوها سوى ان عمرهم آنذاك كان بين 18 الى 40 عاماً، ليتم تصفيتهم وتغييبهم لاحقاً بكل خسة ودونية تليق بعصابات “المنحرفون”، حيث اخفقت كل المحاولات والجهود في الوصول الى أية معلومات حول مصيرهم بعد مرور 39 عاماً على ذلك الحدث المشؤوم، بعد ان تم رمي أكثر من نصف مليون على الحدود الايرانية، وقد تم اختيار اكثر المناطق وعورة وخطورة امعاناً بالتنكيل والحقد على هذه القافلة المنكوبة من دون ادنى ذنب، سوى انها اختيرت من قبل عصابات السفلة لتدشين برنامج دمارها الشامل ضد وطن كان دائماً ملاذا للتعددية والتنوع والتعايش بين شعوبه، ليتحول الى ما نحن عليه اليوم من تشرذم وحطام.
بكل خفة وانعدام للروح الآدمية يمر حطام البشر، على ما شهده هذا الوطن المنكوب من محطات مشينة وانتهاكات صارخة لأبسط حقوق الانسان في العيش الآمن والكريم. لذلك نجدهم وبعد ذلك القسط الهائل من الاهوال التي نجمت عن ظهور عصابات داعش الاجرامية؛ يعدونها من صنع وابتكار “الاعداء والاشباح والشياطين”. هكذا وبكل خسة وصلافة يبعدون التهمة عن ذلك الاحتياطي العريق من الهمجية والاجرام الذي يمد مثل هذه العصابات الدينية والعقائدية والآيديولوجية بكل ما تحتاجه للاستمرار في تدوين مثل هذه الصفحات المشينة من تاريخنا الحديث. بالرغم من مرور 16 عاماً على زوال ذلك النظام التوليتاري الذي اسس لكل ذلك العار القيمي والاخلاقي، او ما عرف بـ “جمهورية الخوف”، الا ان الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور البلد والمناخات التي تلت حقبة ما بعد ذلك “التغيير” اهدرت كل الفرص لفهم ووعي ما جرى وبالتالي تحقيق ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية.
ان جريمة التهجير والتصفية والتغييب والسطو على اموال وممتلكات شريحة الكورد الفيليين، والتي عدها البرلمان والقضاء العراقي من جرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي (الجينو سايد) تحتاج الى تعاطي آخر لا يحصر كل اهتمامه بملف التعويضات المادية واسترداد عقاراتهم المستباحة. تحتاج الى وعي مثل هذه المحطات المشينة والقبض على عللها الفعلية، والتي تتيح لنا جميعاً امكانية تجفيف مثل هذه المستنقعات القيمية والاجتماعية والنفسية الحاضنة لمثل هذه الجرائم والانتهاكات. ان خلو الساحة من مثل هذه التوجهات الشجاعة والمسؤولة هو من شجع بقايا “الفلول” وواجهاتهم الجديدة لتسفيه وتزييف مثل هذه المحطات والاحداث المريرة، مستعينين بسياسيي الصدفة وحطام الابواق كي يعيدوا ممارسة ما اتقنوه جيدا في فن “القاء القبض على الضحية واطلاق سراج الجاني” …!
جمال جصاني