ثمة عادات ضارة تغلغلت في حياتنا الحاضرة، وتفاقم أمرها حتى لم يعد بوسعنا الخلاص منها، أو الابتعاد عنها. فهي الأقوى نفوذاً من أي فعل اجتماعي آخر، والأكثر تأثيراً من أي شأن إنساني ثان.
والمفارقة أن هذه العادات تحل مقرونة بالدهشة، ويفتتن بها الناس أيما افتتان. لأن فيها جانباً كبيراً من النفع. فيحرصون على تجربتها، ثم تتحول لديهم إلى سلوك لا يمكنهم الاستغناء عنه، أو العيش بدونه.
ومن هذه العادات الجلوس إلى الشاشة الصغيرة ساعات طويلة، والركون إلى الهاتف النقال وقتاً غير يسير. فلا تتبقى فسحة من فراغ للتأمل، أو التفكير، أو القراءة، أو النزهة، أو الرياضة، أو غير ذلك.
ولمن يسأل لماذا تراجعت بلداننا إلى الحد الذي انحطت فيه إلى قاع الأمم، وباتت صاحبة الرصيد الأدنى في الحضارة، فإن في هذه العادات الشائعة المرعبة الجواب الشافي. مع أنها غدت الآن من مستلزمات الحياة العصرية، وركناً من أركانها الأساسية.
وقد قرأت حديثاً كتبه أحد شيوخ اللغة قبل ثلاثة عقود، يشكو فيه من أن ساعات بث الإذاعة، قد زادت عن الحد المطلوب. ويأسف لأنها لم تعمد مثل إذاعات الدول المتقدمة إلى تقييدها في أوقات معلومة. فأدى ذلك إلى اختلاط الغث بالسمين، والنافع بالضار. وضاع عمر الشبان، الذين يجلسون إليها ساعات وساعات، سدى. ولم ينس هذا الشيخ التنويه بأن الإذاعة صرفت الناس نوعاً ما عن القراءة. وأخذت تتمادى في ذلك بحكم العادة، «وكم من عادة سيئة يدفعنا الواجب إلى أن نبرئ المجتمع منها»!
في ذلك الوقت الذي تذمر فيه الرجل من الإذاعة المسموعة، كانت الإذاعة المرئية (التلفزيون) تقصر بثها على ساعات قليلة في المساء. وتتوقف النهار بطوله. فلم تكن تقنية الإرسال عبر الأقمار الصناعية قد شاعت. ولم تكن القنوات الفضائية التي يقدر عددها الآن بالآلاف قد عرفت طريقها إلى المنازل بعد!
ولم يكن هناك من قدر له الشعور بمتعة تصفح شبكة العنكبوت، أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو اليوتيوب. كما لم يكن الهاتف الذكي النقال قد اكتشف بعد، بكل ما يحويه من برامج وتقنيات وصور وأغاني وسوى ذلك من الأمور.
وبالطبع فإن العزوف عن القراءة الجادة، والاكتفاء بالعروض المسلية يعني بشكل أو بآخر تدهور قيم العمل، وانحطاط مستوى الالتزام الوظيفي، وغياب الموضوعية. وهي عادات ضارة لا تجني منها الشعوب إلا الأذى، ولا تحصد من ورائها إلا الهوان.
في مجتمع يتمنى كل يوم أن يتقدم خطوة في الاتجاه الصحيح، ويحاول أن يطرح عنه رداء الكسل والخمول، تصبح تقنيات التواصل والبث الفضائي والهاتف الذكي، عقبات كأداء لابد من الحد منها أو تقنينها في أقل تقدير. وهو ما لا أظن أن أحداً يجرؤ على الشروع فيه، لأن العادات الاجتماعية أقوى من أي نزعة إصلاحية، والشعور بالمتعة أفضل من أي امتياز يحصل عليه الناس في أي مكان.
محمد زكي ابراهيم