لعل الملفت للاهتمام في هذا العمل السردي القيم للأديب المغربي لحسن ملواني، هو ما ينبثق عن المستلهم مما قد ينمّ عن طاقة بوح هائلة، وقدرة قلّ نظيرها في تلوين الفراغات التي تغلّف روح الكامن في الكائن، عبر محاولة إضاءة كتلكم عتمة في صميم الذات والحياة، ومحاصرة زمكانيتها، بمتوالية أسئلة فلسفية ووجودية كبرى.
من هنا استقطابنا إلى مثل هذا التدرج في خرائطية التحكم بأحداث وشخصيات الرواية، بدءا من أنساق الأبوة في شخصية” موحى” البطل الثاني لهذه السردية من بعد الإبن” إثري” في ما تحيل عليه التسمية من دلالات فوقية ومفاهيم علوية، مانحة للخطاب نغمة الفرادة والاستثناء.
هو همّ صناعة الأجيال، بدرجة أولى، اقتضى هذه الاستدعاءات المغذية لتعاليم ووصايا قلب المعادلات الإنسانية رأسا على عقب، ضمن حدود واقع الأخطاء والسلبية والنقصان..
تقول الرواية في موضع:
{سأله أبوه وأمه بعد ذلك عما صدر منه وهو نائم، فأجابه بأنه قبل نومه كان يفكر في أمور لا يتذكرها قبل أن يخلد إلى نوم عميق… كان يرى نفسه في الأعالي نجما يشعر أنه شديد الإضاءة وبعينين واسعتين يرى بهما جل ما يجري على الأرض من بعيد، يرى الناس أصنافا بألوان بعضها أبيض ناصع، وبعضها أصفر فاقع، وبعضها أسود قاتم، وبعضها أخضر نضر… والغريب في هذه الألوان أنها تتغير بين حين وحين ومن مكان وآخر. كان يشعر أنه مشرق ساطع يهتدى به في المفازاة والليالي الظلماء.
بعد عقود من الزمن، كان الأطفال يجتمعون بعد المغرب أحيانا يشيرون إلى النجم الأكثر ظهورا ووضوحا في السماء، يقول آباؤهم وأجدادهم: إنه إثري كان يعيش في هذه القرية قبل أن يعود إلى سمائه كي يراقبنا هناك…}.
فتاوى الهمّ أو الاكتواء بهواجس الانتماء إلى منبت ريفي، وانشغالات العيش ما بين المسؤولية والواجب.
حكائية مباهية بإيقاعات المعضلات الوجودية الكبرى، في آفاق أنساق حمل البطولة السردية الأقرب إلى المثاليات والطقس الأسطوري، منها إلى أي تمظهر دلالي وانزياحي آخر، وإجرائها، أي هذه المتون، على نبوءة متقدمة، لا تقبل التأجيل، حققها حضور” إثري” الفاعل والحيوي، في بعدين: الواقعي الساحر والرمزي الإستطيقي.
“إثري” هذا، النجم الأكثر بروزا في صفحة السماء، ليلا، النجم الوالج في أدق تفاصيل ثقافة صناعة جيل مخالف لإملاءات الراهن الناقص والموبوء، تماما، كما سبق وأشرنا إلى ذلك، وعيا وذائقة، والذي يعذب كثيرا بطلنا الخارق، جراء مغامراته الإصلاحية، فيغدو حضوره حضورا مزاجيا، قبل أن تهذبه وتشذبه السياحة الروحية، فيضطرّ أن يرحل إلى العاصمة الرباط كي يُحصّل ثقافة التجاوز، كضرورة قصوى وشرط ماهياتي، وينهل من معانيها، كي يعودـ بالتالي ــ إلى قريته ومسقط رأسه في ولادة جديدة، وقد تشكلت لديه رؤى جديدة معسفة باستيعاب جملة الفوارق والتبايات داخل الوطن الواحد، بل الحي الواحد، أيضا.
وهكذا تبدأ رحلة الاستشراف.
يقول الراوي:
{في ليلة ذلك اليوم نام نوما عميقا لم ير فيه ما يزعجه، في الليلة الثالثة انخرط في عالم الكبار من العلماء والفلاسفة، كان يرى نفسه واحدا منهم يناظرهم، وينتقد نظرياتهم ويحبذ ما أصابوا فيه ويعاتبهم في أفكار يراها تجانب الصواب، نام تلك الليلة وحين استفاق تعجب واستغرب كيف تسنى له أن يعيش لحظات مع كل الفلاسفة والمفكرين الذين قرأ له في وقت قصير جدا…
في صباح ذلك اليوم، كان يبدو له كل شيء يحمل حكمة، فالمنزل رحم نسكنه قبل أن يلفظنا إلى رحم آخر هو بطن الأرض، والباب مفتاح للخير وقد يكون منفذا للشر، والنوافذ عيون قد تستغل للعلم وقد تستغل للتجسس، ورؤية المحرمات، والظل يحتاج إلى نور يثبت وجوده، والليل كالدنيا نتخبط فيه ما لم نتزود بمصابيح تنير دروبنا حتى لا نصطدم بما يؤذينا، وحواسنا أسلحتنا ومن لا يعرف استعمال السلاح في درء الشر يستعمله في قتل نفسه وأهله، وملابسنا قشور قد تغطي خساستنا فلا يكتشفها الناظرون، الشمس مطيعة تقوم بواجبها بصدق فلا تهتم بالمادحين والهاجين، المساواة في الأرزاق مستحيلة لأن الكفاءات تختلف، الطيور تعبر وتعبد بلغاتها، ولا أحد يستبد بالعبادة، والعبادة بالتقليد ترسخ الأشكال وتفتك بالجواهر، والخبز نيتجة كد لا يهتم بها الآكلون بنهم… الشعراء والعلماء والأنبياء والفلاسفة وحدهم الحاملون هموم البشرية…
الماضي لا يستدعي الندم لأنه ماض ولم يعد حاضرا ولن يعود في المستقبل، بالحب نصير أخيارا، محسنين مؤثرين على أنفسنا، صائمين عن الأذى، ذاكرين الخير للاستكثار منه مجانبين الشر فهو يؤذي صاحبه كما يؤذي غيره. وأن القوة في طريقة تعاملنا مع المصاعب، والانتقاد المر قد يكون مبردا يشحذ الهمم، ويعود بالنصر على صاحبه، الانتقاد الموضوعي خير من المجاملة المجانية… المال قد يغنيك وقد يجعلك سخرية أمام الناس، يجاملونك ويتحدثون عنك… العلم لا حدود لمساحته ولا نفاد لبحوره، والحكمة تقتضي أن نغرف منه ما يكفي لصلاح حياتنا القصيرة الأمد… الحاقد يؤذي نفسه دون أن يحقق أي شيء مما حققه المحقود عليه… العبادة التي لا تترجمها السلوكات الخيرة في حياتنا اليومية مضيعة للوقت وهدر للعمر… والمظاهر لا تصنع الاستقامة،
كل شيء صار يقرأه بعين العقل…}.
من هنا حمل الردية على روح المنطق الشفاف، والاغداق عليها من خطاب العقل المتوهج والواعي بإشكاليات العصر، صابغة به محطات الحياة.
علما أن الأبلغ في هذا كله، يكمن في أوجه انثيالات أعمق التفاصيل المفخخة بها فصول حياة البدو البسيطة والبريئة من جهة، والمنطوية على أبجديات النزعة الأعرابية ونعرات النفاق المتفق عليه، من جهة أخرى.
إجمالا، يمكن القول، أن المبدع لحسن ملواني، أفلح وإلى حد بعيد في رسم أولى ملامح مشروعه الشعري، من خلال جرأة ومصداقية وسلاسة النبش في أدغال تراثنا الثقافي العميق، ومشاكسة عوالم الريف المغربي الثري بأضرب الغرائبيته والمفارقات.