جدل المعطيات ومسار المعنى في أغاني الصَّموت

*ماجد الحسن       

    تشُكّل المعطيات انعطافة مهمة بوصفها مرجعيات الشاعر في بناء نصه الشعري، لكونها مسمى على وقائع خارجية يستثمرها الشاعر من خلال الوقوف على مجرياتها،  فهي تشكل نسقاً من التفاعلات تمكّن الشاعر من إضفاء لمساته الفنية، ومن هنا توصف المعطيات على أنها صياغات تعبيرية لها تأثيرها في طبيعة الإنتاج الشعري ودورها في صناعة المعنى، وانطلاقاً من التصور السابق ندرك أهمية المعطيات التي استثمرها الشاعر (ولاء الصواف) في مجموعته الشعرية (أغاني الصَّموت) والصادرة من (دار الصواف) عام (2018)، والذي افتتح مجموعته الشعرية بــ(الأرجوحة):

منذُ خمسين قطافاً أو يزيد

أهزُها مرةً … وصوتُ الحربِ يهزها ثانية

تأخذني للغيم

وتعيدني إلى الأرضِ الحرام

    هناك متوالية واقعية لها مستويات دلالية، فقد استوعب المقطع التقابل الذي تجسد في صورة الأرجوحة وفعلها الذي يشير إلى عالم القلق الذي جسدّ محنة إنسانية سببتها الحروب، وهذا التأرجح بين النماء والحياة بدلالة (الغيم) وبين الجفاف والموت بدلالة (أرض الحرام) تتجلى حركة المعطيات وقدرتها غلى إنتاج أنساق أسست لجدلية المعنى الذي عوّل عليه الشاعر (ولاء الصواف)، وبذلك ندرك إن المعطيات تخضع لإدراك الشاعر إنطلاقاً من الأبعاد الذاتية التي تستقي دلالاتها من موضوعات الواقع:

لذكرى الأزقة الدافئة

للخرائبِ ودواماتِ الغبار

للعباءاتِ السودِ المحمرّة خجلاً

للعتمةِ الغائرةِ في الزوايا الرطبة

لذؤاباتِ النخيلِ المصبوغةِ بدمِ الرمان

للسدرةِ التي لا تنتهي عندها أماني الصبيان

للغبشِ المرشوشِ على السطوح

للحروبِ التي مرتْ من هنا

ونثرتْ قتلاها على عتباتِ البيوت

للماءِ الآسنِ وسعالِ الجدات

متى يستيقظُ الماء؟

    لقد حشدّ الشاعر الكثير من المعطيات التي بقيت وظيفتها الأساس في إحداث نقلة مضمونية ارتكز عليها المعنى الشعري، وهذه النقلة قابلتها قدرة تركيبية نسجها وعي شعري يعرف مجمل إحالاتها، وهذه الإحالات الواقعية من قبيل (الأزقة، العباءات، السدرة، السطوح، عتبات البيوت)، كل هذه المعطيات الواقعية رصفها الشاعر بعناية ليصل من خلالها إلى السؤال الأهم وهو (متى يستيقظ الماء؟)، وهو يشير بتساؤله هذا إلى الحياة بدلالة (الماء)، وهنا ندرك إن هذه المعطيات بمجملها تدور في فضاء الخراب والجفاف الذي أحدثته الحروب، والواضح أنها تمركزت في ثيمة (المعاناة والأسى) بدلالة (الخرائب، السواد، العتمة، الدم، والماء الآسن)، مما أنبثق من تجاور هذه الدلالات إنطلاقاً من معطياتها الواقعة، انبثقت محنة الذات، إذن أهمية البناء الشعري تأتي من أهمية المعطيات:

أيّها الموتُ الذي يشبه السكين

كم أنتَ وقور؟!

حين تداعبُ أجسادَنا الناحلة

امنحْ القمحَ موتاً غيرَ الرحى

امنحْ الجرحَ بقايا أمنية

الثمْ بشفاهكِ الحرّى

قيظَ النزيف

وامنحْ شفاهي ثوابَ الأغنية

    بين (الموت) و(الأغنية) تتشظى الدلالات التي تدور في محور التضاد، فــ(النحول، والرحى، والبتر، والقيظ) ، هي بفعل الموت، إن المعطيات التي تم ذكرها لم تقتصر وظيفتها على الخاصية البنائية فحسب، بل وردت لتوليد دلالات أحكم الشاعر نهاياتها لغرض الكشف عن جبروت (الموت) الذي أطال (القمح والأمنيات والأغاني) وهذه الدلالات تشير إلى الحياة، ولذلك أصبحت هذه المعطيات ليست غاية النص النهائية، بل استهدفت معنى كامناً خلفها ليشي بمحنة إنسانية يتجاذبها الغياب/ الموت.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة