مايكل يونغ
لا يودّ المرء الوقوع في الحتمية الثقافية، لكن النزاع الأوكراني سلّط الضوء على المفاهيم المختلفة جدًّا للقوة والنصر في البلدان الغربية وروسيا. وليس مفاجئًا أن الكثير من الحكومات العربية بدت أكثر مهارةً في فهم منطق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحساباته، من منتقديه الغربيين.
حين قام الروس بغزو أوكرانيا، وقاومهم الأوكرانيون، وكانت مقاومتهم ناجحة في البداية، بدت السردية وكأنّها كُتِبت لفيلم هوليوودي. كان المستضعَف يهزم معتديًا شرّيرًا، وبدا أن نهاية سعيدة تلوح في الأفق. في أواخر نيسان/أبريل، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في اجتماع لوزراء الدفاع: «من الواضح أن أوكرانيا تعتقد أن بإمكانها الفوز، وهذا ما يعتقده أيضًا جميع الحاضرين هنا». تزامن هذا التصريح مع إعلان أوستن أن روسيا تفشل في غزوها وأن الولايات المتحدة تريد أن ترى الجيش الروسي «ضعيفًا بحيث لا يمكنه القيام بالأمور التي أقدم عليها في اجتياحه لأوكرانيا». حتى إن الرئيس جو بايدن ذهب أبعد من ذلك، مشدّدًا على أن بوتين «لا يمكنه البقاء في السلطة».
أما اليوم، فتبدو الأمور مختلفة إلى حدٍّ كبير، إذ تحقّق القوات الروسية مكاسب كبرى في شرق أوكرانيا وتعاني الاقتصادات الغربية من ارتفاع أسعار النفط والغاز، الأمر الذي يعود بالفائدة على روسيا. وقد صرّح بايدن، في محاولة واضحة لإبعاد الملامة عنه، أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي «لم يرد أن يسمع» في مطلع العام الجاري أن روسيا على وشك أن تغزو بلاده. لقد كان التلميح الضمني أن زيلينسكي، لو أجرى تقييمًا أفضل للوضع، لسلك ربما مسارًا مختلفًا، وأنقذ أوكرانيا مما تمرّ به الآن. وهذا الكلام بعيدٌ كل البعد عن مقارنة زيلينسكي بوينستون تشرشل في الأسابيع الأولى للنزاع. فالبلدان الغربية تشكّك الآن في احتمال أن تخرج أوكرانيا منتصرةً، في ظلّ تعمّق الانقسام بينها حول الخطوات اللاحقة. وعلى الرغم من كل ما قيل عن جنون بوتين، روسيا هي التي تنتصر.
مما لا شك فيه أن روسيا ستعاني لوقت طويل بسبب العقوبات الغربية. لكن بوتين مستعدٌّ لدفع هذا الثمن ولطالما كان مستعدًّا لدفعه إذا كان البديل هو هزيمة بلاده في أوكرانيا. الوقت كفيلٌ بأن يحسم إذا سينجح الروس في الاحتفاظ بسيطرتهم على شرق أوكرانيا، ولكن في الوقت الراهن، وطّدت روسيا قدرتها على الوصول إلى القرم، وحرمت أوكرانيا من منطقتها الصناعية، وجعلت الغرب يدرك أن جزءًا كبيرًا من أوكرانيا سيبقى على الأرجح تحت سيطرة موسكو، وأظهرت كذلك للأوكرانيين أن ثمة حدودًا حقيقية للخطوات التي يمكن أن يقدم عليها الغرب لمساعدتهم في الدفاع عن أنفسهم.
من وجهة نظر عربية، قد يبدو ذلك كلّه مألوفًا. فما تعتبره البلدان الغربية معايير للنصر والهزيمة في الحرب يكاد يكون في معظم الأحيان غير ذي قيمة في الشرق الأوسط. لا يتمثّل النصر عادةً في فرض القوة بشكل فعّال، حتى لو كان ذلك مهمًا، بل يتمثّل في الصمود بوجه عدوٍّ أقوى. فقد نجح حزب الله نوعًا ما بتصوير حربه ضد إسرائيل في العام 2016 بأنها «نصر» سُجِّل له، على الرغم من أنها لم تستوفِ أيًّا من المعايير الكلاسيكية التي كان المسؤولون الغربيون ليستخدموها من أجل تعريف النصر. كذلك، تخضع إيران للعقوبات الأميركية منذ عقود، ما يسبّب لها معاناة كبيرة، لكنها لم تبدّل سلوكها، بل ازدادت تمسّكًا بموقفها وحققت مكاسب كبرى في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. لا يعتبر قادة إيران أن النصر يقوم على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر فحسب، بل أيضًا على مواصلة المسار الإيديولوجي.
ينطبق الأمر نفسه إلى حدٍّ كبير على روسيا في مواجهة عالمٍ غربي أقوى. حين يقول القادة الغربيون إن الروس سيشعرون بوطأة المعاناة وينقلبون على بوتين، يبدون وكأنهم يعيشون في فقّاعة. لا شك أن الرئيس الروسي ليس مسرورًا برؤية مجتمعه يزداد استياءً، لكن الأمر الوحيد الذي سيراقبه هو ما إذا سيهدّد ذلك سلطته. لقد اعتمد القادة في العالم العربي – بدءًا من سورية ومرورًا بلبنان والسودان ووصولًا إلى مصر والجزائر – سلوكًا مماثلًا حين شعرت الأوليغارشيات الحاكمة بالضعف. يُجري المسؤولون الغربيون انتخابات ديمقراطية، لكن بإمكان الأنظمة السلطوية في العالم العربي وروسيا أن تلجأ دومًا إلى التلاعب بنتائج الانتخابات، وإلى العنف، في حال خسرت قبضتها مؤقتًا.
الأمر الذي لن يتعاطف معه القادة العرب هو قراءة الأوكرانيين غير المرنة للخيارات المتاحة أمامهم. في لحظة معيّنة، كان بإمكان زيلينسكي أن يلعب لعبة البقاء، ما يتيح له هامشًا للمناورة. في شباط/فبراير الماضي، توجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى موسكو وكييف للتفاوض على حلٍّ للأزمة المتفاقمة. وعلى متن الرحلة إلى روسيا، طرح ماكرون فكرة أن أوكرانيا قد تنظر في ترتيبٍ مشابه لنموذج «الفَنْلَندة» (Finlandization)، كسبيل للخروج من المأزق، وتعرّض للانتقادات بسبب كلامه هذا. لكن، هل كان ماكرون على خطأ؟ ينظر الفنلنديون إلى «الفَنْلَندة» بامتعاض، متذكّرين حين كانت سيادتهم منقوصة بسبب موقع بلادهم في جوار الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. لكن فنلندا بقيت حرّة، وظلّت أيضًا جزءًا من أوروبا الغربية.
أجاب زميلي السابق ديميتري ترينين، حين سُئِل في مقابلة مع «ديوان» عن إمكانية تطبيق نموذج «الفَنْلَندة» في أوكرانيا، أن البلاد تواجه خيارًا قاسيًا: «علينا ببساطة معاينة الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي الفعلي لأوكرانيا. فقد أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة لن تدافع عن أوكرانيا، حتى في حال تعرّضت إلى الغزو واحتُلَّت أراضيها». بعبارة أخرى، حين يوشك عدوٌّ أقوى منك على شنّ هجوم عليك، قد يكون التصرّف الأمثل في هذه الحالة إبرام صفقة للحفاظ على ما لديك.
لا شكّ أن الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تدرك جيّدًا حدود سيادتها، وتتكيّف مع ذلك في الكثير من الأحيان. بقي لبنان لفترة طويلة رازحًا تحت نفوذ سوريا، والآن إيران. ومع أن شرائح من اللبنانيين قاومت ذلك في مراحل مختلفة، يشكّل هذا الأمر واقعًا قَبِل معظم الناس التعايش معه. وقد تمتّعت السعودية بنفوذ كبير في اليمن لفترة طويل، إلى أن وطّدت إيران دورها في البلاد. واليوم، تمارس طهران تأثيرًا في العراق وسورية، فيما تسيطر تركيا على مناطق شاسعة في شمال سورية، وقد تسعى قريبًا إلى توسيع دائرة نفوذها هناك بشكل أكبر. وبالمثل، لطالما كان لمصر دورٌ نشط في السودان.
واقع الحال أن السيادة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال ملتبسة وغير واضحة المعالم. هذا الوضع ليس مثاليًا إطلاقًا، لكن دول المنطقة اضطرّت للتكيّف معه، وإن كان ذلك لمجرّد كسب الوقت بانتظار حلول وضع أفضل. لو أن أوكرانيا أخّرت الغزو الروسي بالوسائل الدبلوماسية والمساومة بشأن اتفاقيات مينسك، لكان بإمكانها ربما تفادي الهجوم الروسي واستخدام هذه المهلة لتعزيز قوتها. بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1990، فرضت دمشق مجموعة من الاتفاقيات التي شكّلت عبئًا على لبنان. لكن الوضع انقلب بشكل حاسم في العام 2005، حين أرغمت المظاهرات الحاشدة المعادية لسورية بعد اغتيال رفيق الحريري السوريين على سحب قواتهم من لبنان.
إن الدفاع عن مبادئ مثل الحرية والسيادة أمرٌ مفهوم. وهذه مبادئ مهمة، لكن فقط إذا كان من الممكن الدفاع عنها. أما إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فالتعنّت الانتحاري في المقاومة ليس دائمًا البديل الأمثل. فدمار أوكرانيا قد يدفع كثيرين إلى إعادة النظر بسردية المواجهة البطولية التي سادت خلال الأسابيع الأولى من الغزو. وقد تبدأ خطابات زيلينسكي «التشرشلية» بإثارة الامتعاض إذا كان الثمن الذي يجب تكبّده هو خراب أوكرانيا، والهجرة الجماعية، والإفقار الاقتصادي. وغالبًا ما يكنّ التاريخ اعتبارًا لأولئك الذين يتجنّبون الانجراف وراء انفعالات اللحظة، ويفضّلون التريّث لبلوغ فهم طويل الأمد لما من شأنه تحقـيق المصلحـة الوطنيـة العلـيا.
لعلّ الدول العربية يقودها حكّام سلطويّون عتاة وفاشلون، لكن هؤلاء أثبتوا أنهم يتقنون فنّ البقاء. فحين يتعلق الأمر بفرض سطوتهم، لم تؤرقهم العوامل التي تردع نظراءهم الغربيين. لهذا السبب، امتنعوا إلى حدٍّ كبير عن إدانة الرئيس الروسي الذي يبدو أنهم باتوا يعتبرونه واحدًا منهم.
*مدير تحرير في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط.