حسن العاني:
انتهى موسم الحصاد وتم تسويق الحاصل وتسلم الفلاحون مبالغهم التي تربو على بضعة ملايين، وقد تصل الى العشرات، حسب سعة الارض وحجم العمل وكمية الانتاج …
ذلك هو الامر الذي بات معتاداً، في البدء كان يثير الانتباه والدهشة، لأن شريحة الفلاحين في العراق كانت محسوبة على من هم دون الفقراء في معايير التقسيمات الاقتصادية، وفي البدء كان الأمر يثير الانتباه، لأن جزءاً من المبلغ مرصود سلفاً لإتمام مراسيم الزواج!
نحن إذن نتحدث بغرابة عما يجري الآن في زمن اللهاث وراء دينار من اجل البقاء، وابناء الريف ينفقون الملايين على اعراسهم.
ليس من الخلق ان نحسد الناس على شيء اسمه (الزواج) لايكسب المرء من ورائه غير وجع القلب، نحن فقط نرفع راية الاستغراب، لأن طقوس الزواج لاتقام لعازب وانما لرجل على ذمته زوجة او زوجتان او ثلاث.. وهذه هي الزوجة الجديدة.
دعونا نعترف من غير اكراه، بأن موسم (الحصاد والزواج) في الريف العراقي مقترنان منذ عهد يسبق ذاكرتنا، ومنذ كان الفلاح لايتقاضى اجور يده وعرق جبينه لأنه تقاضاها على هيأة لقمة الطعام التي يقدمها ملاكو الاراضي له ولأسرته وعند نهاية الموسم يظهر بأنه (مدين) للملاك وهكذا تتراكم الديون عليه عاماً بعد عام حتى يصبح اجيراً مجانياً او (عبداً مملوكاً) على وجه الواقع والدقة.
وهذا الميل المهووس لتعدد الزوجات في القرية العراقية كما يقول احد وجهائها وهو السيد مالك ياسين له مايبرره ، فهناك التركيبة العشائرية التي تباهي بكرمها وشجاعتها وبكثرة افرادها ، وهناك العامل النفسي كما يقول الدكتور محمد ياسين ( حيث يعد الأقتران بأكثر من امرأة تأكيداً للرجولة ، مع ان الرجولة هنا بمعنى الفحولة) وغير هذين العاملين هناك العامل الاقتصادي للمعاونة في اعمال الحقل ..الخ وقد ساعد على ذلك موقف الشريعة السمحاء من تعدد الزوجات.
نظرة الى الحاضر:
لو تجاوزنا الكثير مما يمكن ان يقال.. فإن تعدد الزوجات في الريف يعد ظاهرة تسللت الى المدينة بعد ان ظلت المدينة العراقية (تحارب) تعدد الزوجات وتعمل بمقولة: زوجة واحدة تكفي. السؤال الذي ينبغي الوصول اليه هو (لماذا لم تعد زوجة واحدة تكفي؟ ) ، ولماذا انتقلت (العدوى) الى المدينة؟
الاستاذ التربوي جواد ابراهيم يعزو الحالة الى ان الثقل الاقتصادي انتقل الى الريف، بمعنى ان الفلاح اصبح مسؤولاً عن توفير اساسيات العيش، فاكهة، حنطة، شعير، ذرة ، رز ، خضروات الى جانب المحاصيل الصناعية ، وعليه بات اكثر حاجة الى اليد العاملة التي تتولى الاسرة اعباءها الرئيسة .. وشيء قريب من هذا المعنى يؤكده المزارع قاسم احمد (في عهدته زوجتان وهو على ابواب الزيجة الثالثة) حيث يقول : ان المرأة في الريف تتحمل النصيب العظم من متاعب الارض والزراعة لأن الرجل غالباً ما يكون منصرفاً الى التعامل والتسويق ونقل المحاصيل ، وانا والكلام للسيد قاسم – استعين باليد العاملة الخارجية فأدفع آلاف الدنانير يومياً غير وجبات الطعام ، بينما لاتكلفني زوجتي غير (أكل بطنها) .. الزوجة بالنسبة لنا (يد عاملة مجانية) ، .. وكلام كثير لايخرج عن هذا المعنى.
بالطبع لست متفرغاً لمثل هذه الحسابات – على وفق هذا المنطق – والتي لا يمكن الا الاعتراف بصحتها … الا ان القضية التي تبدو مغلفة بشيء من الحيرة هي قضية المدينة: ماذا يريد رجالها؟ ابتداء لابد من التنويه الى هذه الحقيقة الاولية فإذا كان تعدد الزوجات في الريف يؤلف ظاهرة حياتية يتساوى فيها الاغنياء والفقراء، فإن المدينة جعلت منها حكراً على الاثرياء من اصحاب التجارة والعقار والصناعة واصحاب القدرة على شراء النساء.
ان التغاضي عن مزيد من الاطالة يقودنا الى القول: ان الشريحة التي أفادت بهذه الطريقة او تلك من الاوضاع الجديدة بعد 2003 فإنتعش وضعها المالي انتعاشاً غير طبيعي هي التي يصح الحديث عن ارتباط تعد الزوجات بها، ولكن هذه الشريحة تعاملت مع الزوجة الثانية او أي عدد مضاف على انها من (المتع الكمالية) من باب استكمال الحالة المظهرية لثرائها الطارئ وترفها الحديث فراحت تغير النساء كما تغير المركبات!!
هنا تفيدنا جداً ملاحظات الدكتور كامل سلمان فهو يرى بأن هذه الشريحة لا تمثل البرجوازية الوطنية ولا الارستقراطية الحقيقية في العراق ذات التقاليد العريقة لانها وليدة ظرف استثنائي وقد ارتقت السلم الاقتصادي بأسلوب الفرصة الذهبية او ضربة الحظ او التلاعب والاحتيال، ولو عدنا قليلاً الى الوراء فسوف لا نعثر بين تقاليد الموسرين العراقيين على تقليد اسمه تعدد الزوجات.
الباحثة الاجتماعية ازهار نوري تعتقد بأن الظاهرة قد تخطت حدود الشريحة الثرية الى شرائح ادنى بكثير في مستواها الاقتصادي ، ، فالمشكلات الراهنة اوقفت قاطرة الزواج ونشأ جيل طويل عريض من العوانس ، ولهذا فكرت المرأة بذكاء ان افضل السبل هو ( التنازل التام) عن أية شروط او مطالب مادية للزواج ثم القبول ان تكون (ضرة) او زوجة ثانية او ثالثة ، واعتقد – ولو على مضض – ان تعدد الزوجات بات والحالة هذه قضية مشروعة جداً ومن المفيد ..بل والضروري جداً ان يسعى المجتمع على اشاعتها بين الرجال والنساء … وفي الاطار نفسه يشير الدكتور علي احمد (أستاذ جامعي) الى النتائج المفجعة التي خلفتها الحروب السابقة ثم الطائفية ، وكان الاف الشباب ضحيتها ، كما لا يصح ان نغفل الهجرة الرجالية الواسعة الى خارج البلد في العقد التسعيني من القرن الماضي ..سواء لأغراض سياسية ام طلباً للعمل .. وقد ادى ذلك كله الى اختلال واضح في الموازنة السكانية واصبحت الزيادة في نسب الاناث تفوق نسبة الذكور، وهو الامر الذي يسوغ ظاهرة تعدد الزوجات على شرط ان لايفهم من هذا التسويغ على انه اشباع نزوة او استكمال صورة مظهرية، وانما تعبير عن حاجة حقيقية وانا والكلام للدكتور احمد اشجع هذه الظاهرة « مؤقتاً « لأنها افضل الحلول المطروحة لمواجهة عشرات الالاف ليس من العوانس فقط، وانما كذلك من الارامل وهن في مقتبل العمر.