لكي نرسم صورة لتجليات البنية القائمة في مجتمعنا الثقافي والاجتماعي يجب أن نتناول جانب أساسي هو العقل والواقع الذي يعيشه، فهو اداة النقد الخطيرة واداة الخلق الاولى والاخيرة.
فعلى مدى قرون طويلة وآلاف من السنين في مجتمعاتنا الشرق أوسطية والشرقية عاش العقل منبوذاَ، مستتراَ، وموضع ريبة واتهام.. فكل الدول التي قامت ومارست السلطة حاولت وسعت إلى الاستحواذ عليه وتسخيره ضد طبيعته الحرة المستقلة وتحويله من التفكير إلى التبرير، أو اعتقاله.. بل أن النظم الشمولية الأكثر تفننا وتقنية في هذا المجال تسعى إلى اعتقال العقل الجماعي لا العقل الفردي فحسب والحيلولة دون نشاطه، بالتحكم في ظروفه الاجتماعية والثقافية.
وكانت هذه النظم في القرون الوسطى تستخدم وسائل التكفير والاتهام بالزندقة لقمع العقل المفكر خوفا على النظام الشمولي أو الإيماني من « مخاطر» المنطق والفلسفة وإعمال الفكر، وتحويل كل عمل فكري أبداعي إلى بدعة التي يعتبرها الإيمانيون ضلالة والضلالة في النار ، وان (( من تمنطق فقد تزندق)) (السيوطي). لذلك فقد كان العقل محاصرا مسورا وموضع ريبة ونتاجه معرض للتمحيص من باب الاتهام، وممنوع من الانطلاق في رحاب المنطق والفلسفة والإبداع. ولا نحتاج إلى أمثلة فالفيلسوف ابن رشد والكاتب عبد الله ابن المقفع أمثلة على هذا النمط من الحرب على العقل.
وإذا ما تركت لنا تلك الفترة شيئاَ أو أرثا حضاريا فانه نتاج لعقول استشهدت أو حاولت حماية نفسها بوسيلة أو أخرى لكي لا تقع تحت طائلة الاتهام والتكفير و من ثم الإعدام ، لكنها ظلت تحاول الإفلات من المعتقل.
وإذا كان هذا مبررا بالمستوى الحضاري والتقني والعلمي المتدني مقارنة بالحاضر ، فان تحديد وتأطير التفكير في زمن العلم والتقدم هو حالة ارتداد لا يمكن القبول بها أو تبريرها .. لأنها باتت عقبة كأداء أمام الارتفاع بشان الأمم إلى مصاف الدول المتحضرة، وعقبة خطيرة أمام الحاجة المتزايدة إلى قيم إنسانية، يقبلها العقل المتمرد ويحولها إلى دستور للحياة الاجتماعية والثقافية. وتجاوز الظلاميون كل الحدود واستغلوا القوانين للاعتداء على قادة الفكر المتحرر والمفكرين فقتلوا المفكر الشيخ حسين مروه والمفكر مهدي عامل في لبنان وقتلوا المفكر فرج فوده في مصر وكفروا نصر حامد أبو زيد وفصلوه عن زوجته ورحلوه إلى الخارج ووضعوا السكين على رقبة أشهر روائي العرب نجيب محفوظ، تنفيذا لفتوى بردته من اجل رواية ((أولاد حارتنا)) وأقاموا دعوى ضد الموسيقار محمد عبد الوهاب بالردة من اجل أغنية (من غير ليه) والى أخر القائمة.. ولم يفاجئ احد عندما اصدر الشيخ القرضاوي المحسوب على المعتدلين فتوى بتكفير الروائي حيدر حيدر من اجل روايته (وليمة لاعشاب البحر) وتكفيره وتكفير كل من يكتب عنها، رغم بأنها رواية جيدة وأنها أبداع أدبي..
وكان نظام صدام السابق نظاما شمولياَ قاسيا، اتبع نهجا منظما، لا لاعتقال العقل فقط، بل لتدمير بنيته واعتقال أدواته.. فقد شرع في محاصرة اللغة وتطويقها بالاصطلاحات المحدودة المسموحة الاستخدام، حتى أن أزلام هذا النظام في داخل البنية الثقافية والفكرية صاروا يروجون لهذه اللغة التي تحمل ملامح فكر النظام الشمولي الذي يأبى الانفتاح، ويدعو دائما للتحصن والتخندق والمكافحة… الخ، هذه الاصطلاحات التي تكشف تعصبا متأصلا وخوفا من الافتتاح والتجديد والتحديث، وتحاول الاختباء خلف الموروث لمقاومة التغيير… ويعمل على تقديس الموروث دون قراءته نقديا…
وتصاعدت على هذا الاساس، نزعته لتوجيه المجتمع الثقافي والفكري والسيطرة على توجهاته، بل و التدخل في أسلوب وأشكال الإبداع الفكري والثقافي الغني، مما يعني محاصرة كاملة للعقل، ومحاولة لإبادته أو أضعافه. وهو ما ظهرت نتائجه بعد سقوط هذا النظام، حيث لم تظهر خلال أكثر من 18 عاما سمات و مؤسسات فكرية قوية ومؤثرة .
واتبع النظام أسلوبا آخر للتكفير مع المثقفين والمفكرين والكتاب الذين غادروا العراق أبان حكمه، هو إصدار قوائم بـ (المرتدين) و (الخونة) منهم والعمل على محاصرتهم في الخارج أيضا، واعتقال واغتيال من هو موجود في الداخل أو وضعه في دائرة الصمت، والمنع من النشر ومنع الصحف والمجلات من الكتابة عنه …
أن العقل بحاجة إلى الديمقراطية لكسر قيود الاعتقال وتلمس الطريق نحو الإبداع .. فالحرية والعقل رفيقي درب، إلى التقدم لا يمكن أن يسيرا بدون بعضهما لذلك فان الحياة الجديدة في عراقنا والتي ابتدأت منذ التاسع من نيسان عام 2003 لم تخطو خطوات واضحة ولم نشهد في الساحة كما كبيرا من الإنتاج المحروم من النشر والنور (ناهيك عن النوع) ينهمر على سوق الكتاب والحياة الثقافية.
ولم تظهر أنشطة حرة واسعة للحياة الثقافية والفكرية لتعبر عن عافية هذا الوسط، بعد زمن اعتقال طويل. ويلمس المتابع أيضا ملامح تفتت وتبعية سياسية وحزبية في الحياة الثقافية والفكرية وسمات سيطرة، وتأثير الحياة الايديولوجية على الأنشطة والنتاجات، لدرجة لا يمكن مقارنتها بالنتاجات الحرة المستقلة، والرفض الذي نلمسه لدى قطاعات من المثقفين لهذا الاعتقال الجديد ..
لكن هذا الرفض، لايزال ضعيفا وغير مؤثر ولم يؤد إلى زعزعة سلطة الأيديولوجية الشمولية بكل أنواعها على العقل، ويبقى الطموح للحرية تحت طائلة الخوف والتضييق….
د. جليل ابراهيم الزهيري