رند علي
كان يتجول في باريس يشمُ عبق الحرية عندما صدرَ الفرمان الهمايوني بتعيينه والياً على بغداد فعقد العزم على تطبيق كل مارآه رآى العين و ما كان قد قرأه من نظم دستورية وما سمع به من تقدم حضاري في الدول الأوربية كان مشبعا بالافكار الاصلاحية.
عزمَ مدحت باشا هذا الوالي الجديد الذي لم ينسه العراقيون رغم من مرور مئات السنين على وفاته ومازال أسمه حاضراً في ذاكرة العراقيين على القيام باول عمل اصلاحي وهو انشاء جريدة يستطيع من خلالها ان ينشر افكاره الاصلاحية بين الناس كما يستطيع ان يفهم ما يرجوه الناس من الاصلاحات وما يعرضونه من مطاليب. وفي باريس حيث كان، عندما عين واليا على بغداد، اشترى مطبعة آلية حديثة نقلها معه الى بغداد اسماها بمطبعة (الولاية). كما أحضر معه في نفس الوقت مهندسا للطباعة ومديراً للمطبعة.
تعد الزوراء أول جريدة عراقية رغم أنه يقال أن أول جريدة في العراق صدرت في عهد الوالي داود باشا في عام ١٨١٦ بإسم ( جرنال العراق) فكانت تطبع بمطبعة حجرية باللغتين التركية والعربية وتوزع على قواد الجيش وكبار الموظفين وأعيان البلاد وأشرافها ، كما كانت تعلق على جدران دار الحكومة ليطلع عليها الناس ، ولم يتم العثور على أي نسخه لهذه الجريدة لا في المتحف البريطاني ولا في المؤسسات العثمانية القائمة.
كما أني من مؤيدي رأي الكاتب والباحث العراقي علي الوردي الذي كتب في الجزء الثالث من كتابه لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث : ( يرجح في ظني أن جرنال العراق على فرض وجودها لم تكن جريدة بالمعنى المتعارف عليه الآن . وربما كانت بمثابة منشورات دورية أصدرها داوود باشا لاطلاع كبار الموظفين والأعيان على مايريد أن يطلعهم عليه). وبالعودة إلى صحيفة الزوراء التي سميت بهذا الأسم نسبة إلى أحدى أسماء مدينة بغداد وكان قد صدرَ العدد الأول في ١٥ حزيران من عام ١٨٦٩ أي بعد ستة وأربعين يوماً من وصول مدحت باشا إلى بغداد بثماني صفحات اربع منها باللغة التركية واربع باللغة العربية وفي صدر الجريدة كتبت العبارة التالية (هذه الغزته) تطبع في الاسبوع مرة يوم الثلاثاء وهي حاوية لكل نوع من الاخبار والحوادث الداخلية والخارجية) كما نشر في هذا العدد نص الفرمان العالي بتعيين مدحت باشا واليا على بغداد وكذلك نشر خطاب الوالي مدحت باشا الذي القاه في الاحتفال بقراءة ذلك الفرمان وفيه يعلن رأيه في الادارة ويذكر الاهلين بحالة اوربا وتقدمها.
وكان الأتراك يطلقون على الجريدة أسم ( الغازيتا) أو ( الغزته) وهي لفظة إيطالية وقد حورها العامة إلى قسطة، وقد كان لهذه الجريدة بعض الأثر ، وان كان محدوداً في توعية الناس وتثقيفهم والمعروف عن مدحت باشا أنه أطلق لها شيئاً من الحرية فأخذت تكتب في مواضيع شتى كالحث على تعليم البنات والوقاية من الأوبئة ، والأسباب التي أدت إلى أنحطاط العراق ووسائل ترقيته ، واول رئيس لتحريرها كان الكاتب الاديب العثماني المعروف أحمد مدحت زكي ولا يغير من ذلك ان بغداديين تولوا رئاستها بعد ذلك هم احمد عزت الفاروقي وعلي رضا الفاروقي واحمد الشاوي البغدادي والشيخ طه الشواف ومحمود شكري الآلوسي وعبد المجيد الشاوي وكذلك فإن الزوراء هذه بأدارة عثمانية وبتمويل من الادارة العثمانية في بغداد وتتولى مطبعة الحكومة العثمانية ببغداد التي اتخذت من البناية التى يشغلها بيت الحكمه المطل على نهر دجلة طبعها كما ان الزوراء هذه تولت ايضاً نشر الفرامين والسلامانات والاوامر التي تصدرها الدولة العثمانية والادارة العثمانية ببغداد وان توسعت المواضيع التي يتم نشرها في الجريدة وكل ما تقدم يقطع بكون جريدة زوراء عثمانية من جميع الاوجه. ويقول روفائيل بطي في كتابه ( الصحافة في العراق ) ( سجلت الزوراء في سنواتها الثلاث بدقة كل ما قام به المصلح مدحت باشا من أعمال وإصلاحات بحيث تعتبر خير مرجع لتاريخه في العراق ).
وقد استمر صدور جريدة الزوراء من غير توقف زهاء ثمانية وأربعين عاماً ، غير أنها لم تبق على ماكانت عليه في عهد مدحت باشا من حرية في النقد وميل إلى التوعية وقد ساهم في تحريرها كثيرون كان منهم أحمد عزت الفاروقي ، وفهمي المدرس، وعبد المجيد الشاوي ، وجميل صدقي الزهاوي.
اما العهد الحميدي فقد ضيقَ الخناق على الصحف وأخرس ألسنتها وحطم اقلام الكتاب وفرض الحظر على نشر الظلامات التي يرفعها الناس للحكومة كما حرم نشر الانتقادات التي توجهها الصحف للمسؤولين الحكام وبدت في هذه الجريدة الركاكة الفاضحة واضحة تعج بالاغلاط المزرية، بعد ان تولى ادارتها اشخاص لا يحسنون العربية. والمتتبع لأعداد الزوراء في خلال عدة سنوات يجد التباين في الاسلوب واللغة صعوداً وهبوطاً مما يدل على اهمال الولاة هذه الجريدة حتى قال فيها الاب انستاس ماري الكرملي «واما مواضيع الزوراء فلا تستحق الذكر وأسفاً على ولاية بغداد ان تكون جريدتها الرسمية بهذه الصورة الدنيئة».
وفي عام 1908 عندما اعلن الدستور وظهرت في بغداد صحف شعبية مثل (بغداد) لصاحبها مراد سليمان و(الرقيب) لصاحبها عبد اللطيف ثنيان و(صدى بابل) للمعلم داود صليوة، الغى الوالي التركي نجم الدين ملا القسم العربي في الزوراء بحجة وجود صحف عربية بينما كان الواقع هو منع نشر الرسائل والمطاليب الشعبية على صفحات الزوراء، الجريدة الرسمية. وفعلا فقد اكتفى الوالي المذكور بالقسم التركي من الجريدة وهذا سبب احتجاج فريق من الاهلين من ذوي النزعة القومية حيث طالبوا بعودة القسم العربي، وفعلا عادت الزوراء لتنشر باللغتين العربية والتركية اعتبارا من عددها 2418 الصادر في 7 شعبان 1331 الموافق ليوم السبت 12 تموز 1913 في عهد الوالي محمد زكي باشا.
وظلت الزوراء تتوالى في صدورها بهذا الشكل حتى اذن الوقت لان تحجب عن الانظار وتخفى عن اعين القراء. آخر عدد من اعدادها وكان العدد المرقم 2606 كم عام 1917 وبذلك يكون مجموع ما صدرت به الجريدة من اعوام تسع واربعين عاما حيث لم تر هذه الجريدة النور من بعد ذلك العام.