بسام شمس الدين
دخلت الأستاذة المعيدة القاعة، انتفض قلبي الغافي، واشتدت دقاته، جعلت أتابع نبرات صوتها الناعمة المنسابة كمياه الجداول.. أراقبها وهي تشرح درس الاتصالات الرقمية، متظاهرًا بالإصغاء، لكن حواسي جميعها تلاحق تحركات وانثناءات جسدها البض، وأنظر إلى وجهها الخالي من الزينة والمساحيق، وأتسمر عند شامتها النابتة فوق عارضها الأيسر، يا الله كم تسحرني هذه الرابية السوداء الصغيرة، التي تتقلص وترقص كلما ابتسمت الأستاذة، أو زمت شفتيها الزهريتين، والحقيقة أنني لم أفهم شيئًا من الدرس، وما عرفته هو أنني عاشق.
في طريقي إلى المنزل، حاولت أن أستخف بقلبي، وأهزأ من خفقانه وجنونه، لكن ذلك كان ضربًا من العبث.. لم أكن أؤمن أنني في يوم سأخفق في التحكم بعواطفي ومشاعري، كانت تقودني كرهًا إرادة عمياء نحو هذه المرأة التي تشكلت من قوى الجاذبية والسحر. لم ألاحظ أحدًا غيري منجذبًا إليها، وإن كان بعض ممن ناقشتهم يؤكد بأنها تثير أخيلته الجنسية، ولكن هذا لا يكفي لأقتنع بأني مثار جنسيًا، أو ما شابه. بل إنني مصعوق بها، ومهووس بأوصافها وروائحها وعيوبها أيضًا.. هي أكبر مني بعشرة أعوام على الأقل، ومتزوجة كما علمت من طبيب، ولها طفلة عمرها سنتان، وكل هذه الأشياء المقدسة في حياتها لم تعن لي شيئًا، كنت أعرف أنها نجمة معلقة بين السماء والأرض، والوصول إليها يحتاج إلى ملايين السنين الضوئية، والارتقاء إليها، أو عدمه، يعنيان الشيء ذاته، ويحملان الإخفاق بأبهى صوره وأشكاله.. لكن العاشق لا يلقي بالًا لكل الاحتمالات والقوانين الكونية.. ومن ثم يركب فوق دابة عرجاء باغيًا الارتقاء نحو السماء.. والغريب أن الحيل والأفكار الشريرة تبزغ في ذهن العاشق كالإشعاعات السامة، وأول فكرة واتتني هو أن ألفت انتباه الأستاذة إلى ما يكنه لها قلبي من إثم، ولا أدري كيف فطنت إلى ملفها الوظيفي، واتجهت إلى قسم الأرشيف، ورشوت الموظف بمبلغ من المال كنت في عوز إليه، وألقيت نظرة على تاريخ ميلادها، وكان عيد ميلادها قريبًا ، وهذا من المصادفات التي لا تتكرر بأي حال. وبالكاد أتى يوم الاثنين، وأتيت إلى الكلية أحمل باقة ورد بحثت عنها طويلًا، ورأيت مثلها في فيلم سينمائي، ودخلت قسم الاتصالات، وكان شكلي مضحكًا وأنا أحملها، واقتربت من مكتبها مرتديًا أجمل ملابسي، ملصقًا بشفتي ابتسامة سينمائية تدربت عليها أمام المرآة حتى أجدتها، وترددت قليلًا، ثم قرعت الباب بهدوء ودخلت. كانت جالسة على مكتبها كأميرة في حكاية شعبية، ورأيت الذهول مرتسمًا على ملامحها الملائكية، وسارعت تقول بتوتر: ما هذا يا بسام؟ قلت جملة أعددتها وتمرنت على قولها: أستاذة، أمينة، اسمحي لي. بمناسبة عيد ميلادك أن أخبرك أني أحبك، وأقدم لك باقة الورد. احمرَّ وجهها، وخجلت، وقالت أخيرًا: آه، شكرًا.
كيف عرفت عيد ميلادي؟ قلت بنبرات شيطانية: هذا سر يا أستاذة.. وضحكت.. ورأيتها تبتسم بلطف. ثم تجهمت فجأة، وقالت بحدة: إسمع، كما ترى، أنا امرأة متزوجة، وأحذرك أن تدنس رباطنا المقدس بألاعيبك الصبيانية.. أنا أستاذتك وحسب.. أتفهم؟ قلت وأنا أوشك على الخروج والبكاء: أي رباط مقدس أقوى من الحب. ثم أترين زوجك يجهد نفسه بتهنئتك بمكالمة على الهاتف. أحبك، غصبًا عني.. أهذا ذنب لا يغتفر؟ وخرجت مداريًا دموعي المنهمرة التي عجزت عن إمساكها.. ورآني بعض الأصدقاء، وحاولوا مواساتي، وهم يظنون أن علاماتي في مادتها منخفضة، ولكن مادتها سهلة ومحبوبة، عشقتها واستعذبتها، وحرصت أن أمنحها جل اهتمامي. وفي اليوم التالي، دخلت الأستاذة أمينة القاعة بانكسار مؤلم، ولم تنظر في اتجاهي، وهذا آلمني وهز كبريائي الجريح.. تتحاشاني أمينتي.. وكدت أنشج كطفل اختطفت منه دميته.. وغبت في اليوم التالي، مرضت، أو تعللت بالمرض.. وسرت إلى عيادة زوجها الطبيب، وبالمناسبة هو طبيب أمراض نفسية وعصبية. رجل طويل وناحل ذو وجه متكبر كوجوه الفراعنة القدماء، وسجلت اسمي عند موظفة الاستقبال، وانتظرت.. وحين نودي باسمي دخلت أجر خيبتي معي، لا أعلم هل أشكو فعلًا من الاكتئاب، أو أنني تعمدت رؤية هذا الزوج الذي يحول بيني وبين أستاذتي الحبيبة، وكنت قد أخذت عنوان عيادته من عامل اتصال الكلية الذي يدون عناوين أقارب الأساتذة، للاتصال بهم عند الحاجة. جلست على مقعد أمام مكتبه، والحقيقة ان الزوج بدا يعاني أكثر مني من الاكتئاب، لأنه لم يبتسم كما يليق بطبيب أمراض نفسية. ولاحظت قسماته الجامدة، ونظارته المائلة عن عينيه فوق أنفه المخروطي المدبب، وفكرت أن السماء غير محايدة البتة، حتى تمنح أمينة البشوشة لهذا الرجل الذي لا يطاق. وفكرت أني لست محايدًا، ولعل نظري يغشني ومشاعر البغض تدفعني لعدم النزاهة.. ولكن ما ألبث أن أشعر ناحيته بالمقت، وسمعته يسألني ببرودة أعصاب: ما مشكلتك؟ قلت بعصبية: نعم، مشكلتي أني أعشق أستاذتي بجنون.. وأتعذب بشدة. لم أستطع أن أقاوم هذا الحب اللعين، وأود أن أعرف هل استطاع الطب أن يبتكر شيئًا يحد من هذا الأمر البغيض. ورأيت شبح ابتسامة تفتر عن شفتيه الذاويتين، وقال بتهكم: أهذا كل شيء؟ قلت بحنق: نعم، أليس هذا بشعًا وكافيًا؟ إن أعصابي تظل متوترة طوال الوقت. وذهني مشوش على الدوام.. لاذ بالصمت، وانكب على ورقة يكتبها، ثم رفع بصره فجأة وسألني: هل يؤثر هذا على شهيتك؟ قلت بنزق: بل يؤثر على أعصابي، ويكاد يدمرني.. ألا تفهم؟ صحيح، أن كل طويل يمتاز بالبله.. لم يتأثر بشتيمتي وحنقي، ويبدو أنه اعتاد على سماع ألوف الشتائم من المرضى العصبيين.. ومد لي بورقة تحوي الدواء، وحدد لي طريقة استخدامه، وطلب مني أن أعود إليه بعد شهر.. وسألته قائلًا فجأة: تبدو مكتئبًا أنت أيضًا.. هل تعاني من مشكلة؟ وشعرت بانتفاض جسده، وغضبه، لكنه أمسك أعصابه وأجاب بفتور: نعم، الأطباء يعانون أيضًا.. قلت بانقباض: مشكلة عائلية؟ انتفض جسده ثانية، ثم التزم الهدوء، وأجاب ناظرًا إلى ساعته: لا تبدد وقتي، اطمئن، لدي مشكلة، مشكلة تافهة حول عيد ميلاد زوجتي.. لا تهتم.. ولا أعرف كيف داهمني السرور، حتى أنني ضحكت بوقاحة، وقلت بانفعال: أنت لا تستحقها.. الحياة ظالمة أليس كذلك؟ وخرجت في الحال منتشيًا، وقذفت ورقة الدواء في أقرب سلة أوراق، ومضيت نحو الكلية لا ألوي على شيء، ويوم انفصلا أتيت حاملًا باقة ورد كبرى، كتبت على بطاقتها: إلى أستاذتي وحبيبتي أمينة، بمناسبة عيد الاستقلال.