رند علي
هل كان صابر ضحية لإرث والدته أو ضعف الإرادة في اتخاذ القرار هو ما وضعه أمام الدوامة؟ ربما يكون هذا السؤال مناسباً لمقال يدور حول رواية «الطريق»
تعد رواية الطريق من اشهر روايات نجيب محفوظ وصدرت عام 1964، وتدور أحداث الرواية حول شخصية صابر وهو شاب في العقد الثلاثين من العمر الذي يعيش في كنف والداته بسيمة عمران وهي صاحبة أشهر بيوت البغاء في الإسكندرية ، طوال فترة حياتها كانت بسيمة عمران تمنح صابر كل ما يحتاجه من اموال وعقارات دون ان تحثه على العمل او اكمال دراسته فنشأ الأبن معتمداً اعتماداً كلياً على اموال والدته التي تمت مصادرتها عندما وقفت في وجه أحد كبار الدولة.
(إنهم مهرة في خداع الناس بمظاهرهم، الوجيه فلان.. المدير فلان.. الخواجا علان.. سيارات وملابس وسيجار .. كلمات حلوة.. روائح زكية .. لكني أعرفهم على حقيقتهم، أعرفهم في حجرات النوم وهم مجردون من كل شيء إلا العيوب والفضائح، وعندي حكايات ونوادر لا تنفذ ، الأطفال الخبثاء القذرون الأشقياء، وقبل المحاكمة اتصل بي كثيرون منهم ورجوني بإلحاح ألا اذكر أسم واحد منهم ووعدوني بالبراءة، مثل هؤلاء لا يجوز أن يعيروك بأمك فأمك أشرف من امهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، وصدقني أنه لولا هؤلاء لبارت تجارتي) فدخلت السجن وقضت فيه خمس سنوات من عمرها، خلال هذه الفترة دق الفقر باب صابر المدلل الذي اعتاد على حياة الرفاهية بالاعتماد على اموال والدته التي كانت تأتي بطرق غير مشروعة، لم يستطع صابر التعايش مع الوضع الجديد الفقر والجوع ومصادرة الأموال والعقارات ، رجل لم يخلق إلا للحب كما قالت عنه كريمة ( الوجه الآخر لبسيمة عمران) وزوجة صاحب الفندق الذي سيقطن فيه صابر بحثاً عن والده الغائب المجهول ، وقد كانت بسيمة عمران بعد خروجها من السجن وشعورها بدنو أجلها اعترفت له بأن والده مازال على قيد الحياة ، (سيد سيد الرحيمي) ، لايملك صابر اي معلومات عن والده سوى اسمه وصورة زفاف قديمة له مع والدته وعقد الزواج ، فتشير بسيمة على ولدها بأن يبحث عن والده الغائب ليحميه من الفقر لأنه من وجهاء البلد واعيانها حسب كلامها ، فيبدأ صابر رحلة البحث بعد وفاة والدته التي لم تترك له شيء سوى ماضي ملطخٌ بالعار . مع بزوغ كل فجر يوم جديد نتخذ عشرات القرارات الصغيرة والكبيرة الصائبة والخاطئة طيف واسِع، لا حُدُود له منَ القرارات اليوميَّة. هناك قرارات في غاية الأهمية، هذه القراراتُ هي التي سترسم ملامح المستقبل ، وتُشَكِّل الحياة . هي المسؤولةُ عن هذا التبايُن الكبيرِ بين الناس مِن حولنا، قرارات يجب أن تُعطى انتباهًا أكبر، وحِرصًا أشد، وللأَسَفِ يترُكها كثيرٌ منَ الناس للحَظِّ، أوِ الصُّدفَة، أو لغيرهم كما فعل صابر الذي قرر ان يستغرق وقته كله في البحث عن والده ليحميه بماله وجاهه من مشاكل الحياة دون أن يفكر لحظة في الأعتماد على نفسه ، عاش دور التابع لوالدته وبعد وفاتها حاول ان يعيش دور التابع لسيد سيد الرحيمي ( والده) ، وفي أثناء بحثه عن الأب الغائب تخيره الحياة بين طريقين : طريق كريمة الزوجة الخائنة التي باعها زوجها الأول (البلطجي)ابن خالتها إلى الحاج خليل ابو النجا صاحب الفندق العجوز . وطريق إلهام الفتاة العصامية الواعية التي تفهم الحياة بتعقديداتها وتعمل على بناء مستقبل منشود ، تعرف عليها صابر عندما زار الجريدة لينشر إعلان عن والده الغائب ، المفارقة هنا ان الهام قد مرت بظروف مشابهة لظروف صابر فقدت رعاية والدها الذي تركها ووالدتها لكنها لم تبحث عن من يرعاها فضلت الأعتماد على نفسها ، لكن طريق الهام هو طريق العمل بالشرف والأمانة وهو طريق صعب على من هم مثل شاكلة صابر ( ليست على شفا هاوية مثلك. وليست جائعة إلى الحرية والكرامة والسلام. ولايهددها ماضٍ ملوث قد ينقلب في أي لحظة فيصير لها المستقبل الوحيد).وبعد ان يضنيه البحث عن والده الغائب وتبدأ امواله بالنفاذ يقرر صابر ان يسلك طريق كريمة زوجة صاحب الفندق ومالكه التي تفاجئه في غرفته ذات ليلة وهي تقنعه بأنها تحبه لكنها تخطط للتخلص من زوجها الهرم الذي (اشتراها) بماله ولم يوفر لها احتياجاتها الإنسانية، ليكون الزوج العجوز (خليل أبو النجا) ضحية قتل بشع بتآمر منها وتنفيذ من (صابر) الباحث عن المال والراحة والحب بمفهومه الخاص. (إلهام.. لست إلا عذاباً . أما كريمة فقد جمعت بينكما الجريمة برباط لن ينفصم حتى الموت، وحاجتك إليها كالجوع الكافر وإن قذف بك في أعماق الجحيم).
لم يكن صابر ضحية نشأته والظروف المحيطة به بل كان ضحية أختياراته الخاطئة سلك طريق كريمة ( طريق الشهوة والجريمة) الذي توقع ان يحظى في ظله بالسعادة والسلام والرفاهية والطمأنينة لكن من العبث أن لاتشك الشرطة بأمر صاحب الماضي الملوث فيقع (صابر) في يد الشرطة التي تنصب له شباكها وتراقبه ليجد نفسه في السجن وكأنه في رحم.
( في سجن الموت تتحرر من علاقات الحياة كلها فلاتهمك الفضائح. أنت متحرر من الكبرياء والخجل كما كنت وأنت في الرحم. صابر يقبض عليه متلبساً بقتل عشيقته. صابر له قصة. بسيمة عمران إمبراطورة الليل بالإسكندرية. عللته عند اليأس والإفلاس بجاه اب مجهول). وكأن محفوظ في هذه الرواية يصور لنا طريقين للحياة ، طريق العبث والشهوة يقود إلى ارتكاب ابشع الجرائم ، وطريق الحب النقي الخالص والعمل الشريف بحثاً عن المستقبل المنشود هو الذي يقود إلى الخلاص ، (ارجع إلى الأسكندرية واعمل قوادًا لأعدائك، اقتل واغنم كريمة ومالها، استخرج الرحيمي من الظلمات وتزوج إلهام. آه.. وشتاء القاهرة قاسٍ لا يضمر المفاجآت ولا يعزف موسيقى السماء، وما أزحم شوارعها ومحالها فهي سوق تتلاحق فيها الأجساد والسيارات، وأكثر من امرأة تجد فيك ما تبحث عنه بنظرة واحدة على حين تشقى أنت عبثًا في البحث عن سيد الرحيمي) ، «إلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر» ويظل الإنسان إبن بيئته،(بسيمة) الأم المنحرفة الساخطة التي امتهنت الرقص والدعارة والغيرة فقتلت وسجنت ثم ماتت لتضع ابنها (صابر) أمام تحديات العمل في البلطجة أو العثور على والده في القاهرة، ربما… وهي التي أحاطته برعايتها وعاطفتها فدلّلته إلى الحد الذي لم يعد معه يجيد أي عمل سوى البلطجة والقتل! . و(الأب) الغامض الغائب (سيد سيد الرحيمي) رمز الخلاص الوهمي هو خرافة؛ ليس واقعا. لن يحضر ليخلّص هذا الضائع الحائر الباحث عن خلاص خارجي لمأساته ومشكلاته.