د. سليم جوهر
” يالك من أحمق يا نيتشه ، فأي سوبرمان هذا الذي تنادي به ؟ ” (ص219).
عبارة وردت في جواب محسن عن سؤال وجهته له ” محبوبته ، معشوقته ، زميلته ريتا ” عن معنى ـ بل عن جدوى ـ الحكمة .
ثمة سؤال طرحته على نفسي ؛ لماذا يكتب الدكتور والناقد والأكاديمي على حسين يوسف رواية (تلك أسفارُه) ؟ وما الجدوى منها وهو الذي لديه كتب تدرَّس في الجامعات العراقية ؟ وقد خطر على بالي قول مايكل كارول في معرض وصفه لتجربة كتابة رواية ولم تحظ بالقبول والنشر، قائلا (ولست أشك في أن هنالك المئات من الأكاديميين لديهم مخطوطات يتجمع فوقها الغبار مركونة على رفوفهم، والحقيقة أن هنالك واحداً من كل عشرة آلاف أكاديمي يمتلك امكانية تحويل خبرته المدرسية إلى عمل روائي جيد). فهل كان علي حسين يوسف هو هذا الواحد ؟
لا أعلم ، ولكنني وجدت بعضا من ضالتي في روايته (تلك اسفارُه) فاقتنصتها .
نحن نعلم أن غاية الروي أن تدخل المتعة على القارئ من خلال التسلية أو اللهو , لكنني لا أعتقد أن رواية ” تلك اسفاره ” تحمل أيا من تقنيات التسلية أو اللهو بالشكل المتقدم ، فهي خالية من التخمين ، والتوقع والانتظار والدهشة , ولكن قارئا مثلي قد يجد المتعةً في فك أسرارها المخبوءة خلف الكلمات المثقلة بالثقافة الموسوعية ، فيلتقط ما يشي بفلسفة فيها ومن بين سطورها .
فالسؤال السردي التخميني : ما التالي ؟ وقد تمت الإجابة عليه من الصفحات الأولى للرواية ، بموت محسن ، وجنون زوجته لكن السؤال الفلسفي بقي شاخصاً ، ماذا يريد أن يقول لنا (علي حسين يوسف) ؟ يمكنني القول إنها سرد فلسفي , فهل في ذلك مجازفة ؟
وهل هو يبحث عن قارئ تقليدي للرواية (باحث عن المتعة) ، أو يتوجه إلى قارئ مغاير ؟ أزعم بأنه لو كان راغبا في التوجه “لطالب المتعة” لما أثقلها بكل تلك الآراء والأسماء : الفلسفية والنفسية ، والتحليلات الاجتماعية والأنثروبولوجية , فما اعتقده أنه يبحث عن قارئ مشاكس لا متواطئ ؛ قارئ لا يفترسه النص وبعيداً عن التلقين ، قارئ يصبر عليه ويفكر بما بعد النص ، ليصبح منتجاً لنص مواز … إنها تدريب لتفكير فلسفي .
إنها أسفار في الحكمة وأهلها والفلسفة وفلاسفتها وعلم النفس وعلمائه ، والتاريخ وشراحه ، والشعر والشعراء والفن ومبدعيه ، إنها أسفار ذاكرة مختزنة بثقافة موسوعية يتم تظهيرها سردياً , تستخدم هنا السردية (إن لكل شيء قصة) لتفسير الخبرة البشرية ، فكل شيء يأتي من مكان، وله قصة وعلاقات بالأشياء الأخرى، وما دام بالإمكان إعادة سرد تكوين وتطور شيء ما سيكون بالإمكان وضعه بلغة سردية.
إنها سيرة شخصية وتاريخ … أرشيف للحوادث والأفكار(ص290) , هي ملاحظات لشاهد عيان ينظر للآخرين من عليائه العقلي بعيدا عن مشاعره ، ليسجل بأسلوبه الخاص الحوادث وهو غير معني بهم ، فهو سارد حيادي ، فهو لا يخوض في بيان مكابداتهم وكيف يشعرون ، بل يصف من الخارج ما يشغلهم ويعانون ، إنه يترفع على تقمص شخصياته ، ليبقى عقلاً شارحا ومفسرا لما يحدث ولا يعيش الحدث ، لذا فهو لا يجعلنا نعيش الدهشة ، بل يوقظنا في كل حين ، وتلك مهمة الفلسفة .
هنالك انفصال بين الحدث والمشاعر … بين الزمن وتوالي الأحداث ، حتى لتشعر وكأنك في هياج من تلاطم الأفكار , فثمة فرق بين سرد يمثل تواليا للأحداث ، وسرد نقدي لهذه الأحداث نفسها ، لا تجد تفسيرا لهذا التوتر بين الزمن السردي والانفعال ، أو بين الحدث والمشاعر.
نجد هنا سردا يقوم على تأسيس قوي عن الصدق والحق الأخلاقي ، أي لا يقنع بمجرد السرد ، بل هو مدعوم بأفكار وحجج يمكن أن تنتج تفكيرا نقديا , فعلينا أن نقرأ (أسفاره) في علاقاتها بمفاهيم كلية مثل : الحق والأخلاق ، والعدالة ، والحيادية في النظر إلى الاشياء ، وصولا إلى إمكان تحقيق مآلات البشرية .
لذا فهو يسأل عن حدود العقل(ص14) ليقول لنا إن ” من أصفها لكم لا تتوهمونها بفقدانها للعقل ” وهو لا يدع لنا مجالا أو فسحة لكي نترقب التالي ، فيقضي على متعة الانتظار والاكتشاف لدى القارئ ، ليجيب : لماذا ينسبون العقل للبعض فيما تسلبونه مني(ص16).
فهل هو سرد احتجاجي أو تحليل للواقع عندما يستفهم عن “عقل الانسان الذي نادرا ما يستحضر حكمة الموت (ص39)” , فغاية الحياة هي اللذة التي لا يتبعها ألم (ص213) , وإن العقل قُرن بالحلم ، فزكاة العقل احتمال الجُهال (ص227-228) , فنحن لسنا كائنات منفصلة عن هذا الوجود، وخطيئتنا القاتلة حين نتصور أننا كائنات مستقلة (ص219) , فعوالمنا غالبا ما تمثل قناعاتنا نحن ، وهل يُخلق العالم من دون الكلمات والخيال(ص24) ؟ تلك هي فلسفته التي تجمع بين الظواهرية اللغوية , وأيضا البراجماتية لأغراض استخدام الوسائل المختلفة التي تتوسط اللغة من خلالها الخبرة البشرية بالعالم كما نراه .
يحتل الإنسان مركز الصدارة في (تلك أسفارُه) لذا فثمة فرق بين سرد وهو توالي للحدث ، وسرد نقدي لهذه الأحداث ، أن تفسر هذا التوتر بين الزمن السردي والانفعال ، أو بين الحدث والمشاعر، كما يظهر من اقحام حوار العاشقين : (ريتا ومحسن) وهم من المفروض في خلوة وجدانية فنفاجئ بسؤال ريتا عن الهوية : ” ولأننا في العراق نعاني من إلحاح سؤال الهوية ، لأنه يشي بضنك الواقع وتشظيه(ص204) “.
ويسترسل ليطلعنا على فلسته ورؤيته للهوية بقوله : ” إن الكتابة أو الحديث عن الهوية تعني بشكل ـ من أشكالها ـ ورطة ، إنك تضع نفسك في عملية انكشاف أمام الآخر، بل ربما تضعها في مواجهة مع الآخر، ومن شدة وطأته على كواهلنا نحن أبناء هذ البلد، يمكن القول إن العراقي اليوم ما عاد يفكر بأمر مثل تفكيره بمسألة الهوية (ص204) “.
ينتهي المطاف بالبطل في نهاية الرواية وهو يسير مع عباس متجها إلى القرية ” يقف مذهولا أمام شيء أسود إنه يشبه الإنسان (ص335)”، إنه معروف لديه بشكله العام ، وغريب عنه بتفاصيله ، يتقدم نحوهما هذا المخلوق بهيئته المخيفة (ونعود لفلسفته) : الكلمات تصنع عوالمنا ، فكلما أقرب منهما ينكرونه ولا يعرفونه ، وهنا تكمن فلسفة الاغتراب ، كلما بعد عنهم عرفوه بشكل مبهم ، وكلما اقترب (أكثر معرفة) أصبح غريبا عنهم , ” فالغرباء كائنات مخيفة (ص103)”، هكذا رسخت الكلمات شعورا غريبا ، بأن البشر يصنعون الحواجز للتفرقة بينهم مما يضاعف الريبة بينهم ويؤجج الكره ، ويزيد من عدم الثقة بالآخرين (ص104).
لذا فالحروب قبل أن تقع على الأرض تضطرم بالعقول ، فواقع الحال يشير إلى أن الحروب تقع بين الأفكار قبل أن تتحقق على الأرض ، انطلاقا من فكرة : ” أنا المحق وأنت المخطيء ” (ص149-150).
إن الحقيقة تبدو كارثية حين يقتل الناس بعضهم باسمها … مشكلة الحقيقة لا تكمن في وجودها أو انعدامها ، بل تكمن في طريقة تصورنا لها(ص159) , لكن المهم أنه إذا وقعت الحرب وقد أحرقت الأخضر واليابس ، فهذه هي الحقيقة بل هي الحقيقة المرة(ص152) , لتنتهي الرواية باختفاء محسن وصمت عباس في الافصاح عن وجود هذا الغريب .