قراءة في قصص حسب الله يحيى ” أصابع الأوجاع العراقية “
محمود خيون
أصابع الأوجاع العراقية للروائي الكبير حسب الله يحيى.. قال عنها إنها آخر كتاب في خاتمة حياته الأدبية ولايعتقد أنه سيكتب سواها….
وقد أختار الكاتب مفردة ( أصابع ) للاشارة الى دلالات كثيرة تحتويها هذه المفردة بمفاهيمها الملموسة والمتصلة بكل تفاصيل التحولات غير الارادية والتصرفات الآدمية اليومية على مستويات الحياة العامة والخاصة وما تستانفه من توصيلات إرادية كانت أم غير إرادية.. فالاصابع هي ديناميكية الحركة والفعل والإرادة فيها نقبض على زناد البندقية ونحمل السيف والرايات وبها نمسك القلم وبمجموعها نحمل النعوش الى مثواها الأخير… وفيها نحفر القبور ونفتش عن أشلاء الموتى المنتشرة هنا وهناك بعد أي عمل إجرامي يحصد ارواح الأبرياء بلحظة عمياء…وفي الأصابع نقطف الثمار من اعالي النخيل الباسق ونكتب وصيتنا الأخيرة….وفيها وفيها… فكم كان الوصف رائعا ودقيقا وموفقا حين أراده( حسب الله يحيى ) أن يكون هكذا للتعبير عن حجم الأوجاع التي سلبتنا الراحة على مدى سنين عجاف طوال… عشناها نسير على جسور الموت….
لقد أبدع الكاتب في إختيار ( الأصابع العراقية ) التي لايمكن لغيره أن يتبوءها…لان الكتابة في زمن الحرب وكما وصفها أحد الكتاب المعاصرين والمحدثين بأنها تعد بحق فعلا يحمل روح التحدي للخراب (ففي ظل الأوضاع المعيشية التي تتأزم وكتل الدم والجثث والاشلاء المتناثرة..تغدو القراءة فعلا مستحيلا إلا عند القلة..لكن على الرغم من ذلك الخراب بدت القراءة في أغلب الدول العربية الاي تعيش حروبا متناثرة أشبه بإعادة إحياء واعمار للخراب العام في كل ثنايا البلاد…لكن والحال هذه تبدو القراءة أيضا محاولة لتهدئة الروح التي تعيش داخل حرب أو تراقب حربا ما وفي القراءة ذلك الهاجس الحلمي في خلق غد أفضل من الآن…لاعلاقة للخيال بهذا الامر على قدر ماللواقعية صلة بذلك…كيف ذلك؟ …لابد من ان القراءات مجتمعة تخلف الروح الجديدة حتى وان كانت الروح التي تقرأ تعيش حربا طاحنة…)….
ونحن نقول بأن ما اراده الروائي والكاتب الكبير حسب الله يحيى في مجموعته القصصية( أصابع الأوجاع العراقية ) هو أن يسلط الأضواء أكثر فأكثر لحجم الهول الكبير الذي عاشته البلاد تحت ظل فوضى عارمة تحطمت ازاءها ارادات ومقادير كبيرة تولدت عنها حطامات وتخريب وقتل على الهوية أو بتفخيخ النفوس الخائرة والمفرغة من الأحاسيس والإنسانية لتتحول في لحظة ما الى كتل بركانية انفجارية تحرق اكبر المساحات من حولها… وتخلف اكداسا من الجثث المحترقة والمتناثرة الاشلاء…هكذا اراد لها أن تكون أو كما رآها حسب الله يحيى في اوجاعه العراقية.. وهو يصفها بكل دقة وعناية..( كانت هناك أجزاء وأعضاء ورؤوس…كان المكان أشبه بمكان لادوات السيارات المبعثرة التي يراد العثور على قسم منها لإكمال نقص أو لإصلاح أو لترميم سيارة….عفوا لتكوين إنسان ميت بأعضاء متكاملة غير منقوصة..).. ثم يردف ويعاود الوصف( كانت اصابعي تنتقل من جثة الى اخرى…وكانت رائحة الجثث ممزوجة بمادة حافظة يطلق عليها إسم( الفورمالين)…)…
بهذه الصورة وغيرها أراد الكاتب أن يتتبع الحدث بكل مناظره المرعبة والمخيفة والتي تكون في وحدتها حدود لوحة مدماة ومختزلة ومزينة بألوان الدم والرماد والخراب…وهي تناى الى ابعد ما يكون لها من أبعاد تؤشر حجم الألم والتيه والحسرة في قلوب الناظرين لخطوطها المتشابكة والتي أن يفك طلاسمها الكاتب حسب الله يحيى.. .
وهنا أراد أن يؤكد ذلك الفعل الممزوج بالوجع الكبير وهو يبحث بين الاشلاء عن بقايا وجه أخيه أو نفحة عابرة من عطره الفواح يتساءل( هل يمكن أن تتحول العطور التي كان يستخدمها أخي بسعادة الى روائح بكل هذا العفن القاتل؟،)….
في هذا الإيحاء والايجاز يصف الكاتب حالته وشعوره بالألم الكبير والحسرة على أخيه وعطره الفواح وكيف امتزج بروائح البارود والحرائق والدم الداكن وهو يصبغ الأشياء من حوله… ثم ينقلنا الكاتب وفي حركة سريعة مفاجئة الى منظر آخر من مناظر البؤس وحالة اليأس التي ارتقتها مخيلته وعاثت في قرارة نفسه فيحدث روحه المعذبة( رصدني ابي وانا اتناول عشائي….وتنبهت أمي إلى حالي وأدرك اخوتي انني في محنة مع اصابعي….سالوني عن السبب..لم يكن بي البوح بما كان….وأن جثة اخي ضائعة بين مئات الجثث….أو أنها مازالت مفقودة ولم ترس في هذا المكان.. )… ثم يصف ذلك الشعور الذي انتابه بكل دقة وخشوع( كانت الدموع عشاءنا في ذلك المساء …).
يذكرنا الكاتب حسب الله يحيى بالماساة التي عاشتها اوروبا خلال الحرب العالمية الثانية أو الحروب الأهلية التي طحنت في رحاها المئات من الرجال والنساء والأطفال وكان شاهدا على ذلك ماكتبته مارغريت ميتشل في رائعتها(ذهب مع الريح) والتي قال عنها النقاد بأنها أفضل رواية من بين مثيلاتها التي تحدثت عن حجم الآلام والمأسي التي خلفتها الحرب الأهلية الأميركية والتي بقيت في الذاكرة طويلا… وكان نجاح الرواية بأنها قدمت الأبعاد الحقيقية لحجم الدمار والموت الذي تخلفه الحروب الأهلية أو المنازعات والفتن بين أقطاب غريبة التكوين والايدلوجية…كذلك يذكرنا برواية( اختطاف) للكاتب الإنكليزي روبرت لويس التي تحدث فيها عن الخراب والقتل والدمار وحجم الإنقسامات المذهبية في بريطانيا والتي تواصلت حول الدين وهوية الملك وغيرها ويعد روبرت لويس بارع في خياله الادبي الساطع في رسم معالم الأحداث في تلك المرحلة التي عاشتها اوروبا تحت ظلام الدم والموت وانتشار الجثث
المتعفنة هناوهناك في تلك الحقبة…
وفي قصة( اصابع القتل والدفء) يبين لنا الكاتب بأنه كان يراقب عن كثب تحركات رجل…مشبوهة ومريبة أتضح فيما بعد أنه انتحاري بحزام ناسف( مر من أمامي على عجل…وشغلني عن ملاحقته بالنظر..حضور عدد من الزبائن الذين كان علي تلبية طلباتهم… وفجأة سمعت صوتا مدويا وانقلابا عارما وصرخات مدوية تملأ السوق وخضروات وفواكه تدهس بالارجل وتتبعثر هنا وهناك…ورائحة بارود وحريق وروائح واصوات طلقات نارية عشوائية تملأ السوق وتحيل زحمة السوق الى زحمة للخلاص وانقاذ الأرواح بأي ثمن…)..
تمكن الكاتب حسب الله يحيى أن يصور لنا تفاصيل ماجرى امام مرأه وبدقة حين ركز اهتمامه بذلك الرجل الغريب الملامح والشخصية الذي استطاع أن يلاحقه بغور نظراته حتى حدث بعدها ذلك الدوي الهائل الذي نتج عنه صرخات مدوية واشياء وأشلاء تنتشر في أرجاء المكان..واخرى تدهس بالارجل.. وقد امتاز حسب الله يحيى بأسلوبه الشفاف والسلس والواضح الذي يكمن عن قدرة على صناعة البناء الفني القصصي المتكامل من دون أن يدخلنا في دهاليز معتمة وطلاسم يصعب علينا فكها أو ظلاميات في الكتابة السردية…. وهو هنا يذكرنا بكتابات طه حسين ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وسهيل ادريس وغيرهم من عمالقة الأدب العربي الذين اغنوا الساحة الأدبية والمكتبة العربية بروائع ما فتئت شاخصة في عقول وضمائر الكثير من القراء والنقاد والباحثين والدارسين. ومحط فخر ورقي..
وفي منظر آخر يصور لنا الكاتب المبدع حسب الله يحيى ذلك المنظر المرعب الذي خلفه الانتحاري وحزامه الناسف( كانت العديد من الجثث مرمية على الأرض تنزف.. والى جانبها ذلك الرجل الفريب الذي ميزته من بين زبائن السوق ملقى على الأرض فيما اصبعه يضغط على حزام عريض مملوء بالحشوات وقد بدا ممزقا وقد تحول إلى أشلاء… كانت ملامح الرجل السمراء الصدئة واضحة وميزت بضع طلقات على رأسه وجسده وهو ينزف…وثمة من يشتمه ويبصق على جثته ويدوسها باقدامه…). ولم يكتف الكاتب بهذا القدر من الوصف بل تعدى ذلك لأن يسترسل في سرده للحادث بالتاكيد والدلالة( كان الناس قد تجمعوا حول الانتحاري ليشهدوا طبيعة الاحزمة الناسفة وماذا إذا كان الشخص الذي كان يريد إلحاق الضرر بنفسه والآخرين.. إنسانا يماثل سواه في شكله وطبعه وسحنة بشرته….)..
لقد إستطاع الكاتب حسب الله يحيى في منحزه ( أصابع الأوجاع العراقية ) أن يجسد وبادق الوصف والتعبير ما حدث في الأعوام التي تلت عام ٢٠٠٣ والى يومنا هذا من مأس ودموية وبشاعة المنظر المريب الذي اكتنف مفاصل الحياة اليومية الذي خلف المزيد من الخراب والموت على الأرصفة والساحات وعند أعتاب المدن المتعبة….
ان( أصابع الأوجاع العراقية ) وكما أراد لها الكاتب أن تكون خلاصة من الأوجاع العراقية التي عاش نبض كل لحظة منها.. وما وجد إلا أن يمتحن تلك الأعوام بتجارب جديدة ومغرقة بالاحزان وثقل الزمن الذي عاشه.. وتفاعله مع شخصيات ادرك طبيعة هواجسها ومرارتها الثقيلة….التي قد تتحول الى نواح وهذا ما لا يريده الكاتب وانما أراد أن يعبر من خلالها عن واقع صدىء لابد من تغييره وهو أمر يسعى اليه ويكافح من اجله…
اقول أن مجموعة أصابع الأوجاع العراقية للكاتب الكبير حسب الله يحيى والتي قال انها ستكون خاتمة ماكتب ولايعتقد أنه سيكتب سواها.. تعد وثيقة مهمة وحساسة عن محطات خطيرة في تأريخ البلاد توقف عندها الكاتب ونشر ظلاللها المخيفة والمريبة التي غطت سماء المديتة بسحب داكنة سوداء شرعت فصول الموت والقتل والتخريب والابادة وذبح كل أمنية يراد لها أن تتحقق على الرغم من انحسار جادة الأحلام عن الواقع الرديء الذي عاشت الناس بطوله وعرضه واستعرضت فيه طوابير من الخونة واللصوص وقطاعي الطرق….
لذا فهي تتصف بأنها اوجاعا عراقية كتبت بأسلوب سردي رصين وواضح وسلس وخال من الطلاسم والغموض اللذين يتبعهما بعض الكتاب ويعدونها رمزية الكتابة…