البعد الفكري وسعة الخيال في
علوان السلمان
لقد شهدت السردية عبر تاريخها الابداعي انعطافات وتغيرات تاريخية وتحولات فنية وفكرية تتوافق والتحول الحضاري للعالم المعاصرـ عالم الحداثة وما بعدها ـ فانتهت بتأسيس قائم على الاضاءة المتوهجة، المكتنزة فكريا ووجدانيا، والمتكئة على ضوابط فنية وبنيوية معبرة عن لحظة شعورية مكثفة..خالقة لحقلها الدلالي ومنسجمة وعصرها بصيغة حداثية متأثرة بمؤثرات خارجية تمثلت في حركة(الحد الادنى minimalism) التي انبثقت من الولايات المتحدة ودعت الى (كتابة مختصرة لحياة مختصرة). فكانت القصة القصيرة جدا الوامضة وليدها فنيا بوصفها اسلوبا حداثويا يلجأ اليه المنتج(القاص) ليشير الى زخم من التكثيف الدلالي والاسلوبي والفني من جهة، وتحقيق عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي من جهة اخرى.
وباستحضار المجموعة القصصية(الاغتيال الازرق)و(لحاء الطباشير) التي نسجت عوالمها النصية انامل منتجها القاص واثق الجلبي. واسهمت دار ومكتبة كلكامش للطباعة والنشر في نشرها وانتشارها/2020..كونها نصوص تعتمد مبدأ الاقتصاد في الالفاظ، مع ميل الى الادهاش والمفارقة الاسلوبية المفاجئة وتجاوز الخطابية والتعبير عن لحظة انفعالية تتوخى الايجاز وعمق المعنى وكثافة الايحاء لتحقيق خطاب اتصالي يثير الانفعالات ويستفز الذاكرة عبر وحدة عضوية تشكل نسقا جماليا متداخلا والفعل الشعري والاستدلالي، باعتماد الفاظ يومية بعيدة عن الغموض والضبابية تهدف الى تحقيق ذات المنتج(القاص) في تكوين موضوعي قائم بذاته..
(عند استباق التراخي بتوتر ملحوظ تنهدم معاصم الاندثار عن حنق مستبد، فضاءات الوقت المحبوس في غمامة الفكر تتماهى لتشكل افواج ظمأ غير مدركة لمصير الكف..بدأ يتمحور حول ذاته الكظيمة..متشحا بكل خرق النزاع المبذور في شخصيته. لم تكن الدموع تعرف طريقا للخروج لأنه لا يمتلك عينين. احضر برميلا اخضر الفم ومشطا لا وجود فيه للأصابع. اخبر نفسه بما كان. ولم يعلم بما سيكون. حرك كنانته، مشى على سترته العتيقة، لعن كل حرف كتبه، وصل الى تلفازه الاسطوري. ادخل راسه في الشاشة واختفى..) ص15..
فالقاص يركز على جمالية السياق النصي السابح في فضاءات المخيلة الممزوجة بالواقع مع توظيف الرمز/ الاداة الفكرية للتعبير عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك السردي وتحقيق المشهدية المستفزة لذاكرة المستهلك (المتلقي) الذي يعد من اهم ركائز منظومة النص، كونه وسيلة فنية تتجسد في عوالمها افكار المنتج(القاص) وعواطفه وتتحول الى رؤيا…
(خاط ثقوب الشجر بأبر المنزلقات وكان صوته ناعور رمل وجبة ملح. غنى في عرس النخلة فتجهم الملكوت، انطلقت منه الاكاليل ففجر بالنرجس وراحت قوافله المتقدة تنزاح من المعنى الى المضمون..حكائية التجسيد متاهة وعظية نبتت على مشافر التوحش الفطري للقتل والاستلاب..هكذا صارت حياته فقاعة نعل ارتداها بصمت ومضى..) ص84.
فالنص يتعالق في بنية المقومات الاسلوبية والفنية(الحدث والزمان والمكان والشخصية..) والتشكيل البصري الذي يتماشى والمضمون النصي(الفكري والنفسي والاجتماعي..) والتي تشكل حركة نامية تبدأ بوعي المنتج(القاص) لتقدم معها حركة الشخصية..فضلا عن تعدد المستويات الوصفية(وصف الامكنة ووصف الطبيعة..)مع تركيز على انتقاء الالفاظ الموحية، الخالقة لتراكيبها، اضافة الى اعتماد المنتج(القاص) التقنيات الفنية والاسلوبية كالتنقيط الدال على الحذف والذي يستدعي المستهلك(المتلقي)لملء فراغاته..وهناك الاستفهام الذي يسهم في اتساع مديات النص ببحثه عن الجواب..فضلا عن الخصائص المميزة له(التكثيف والايجاز والاختزال الجملي والحذف والاضمار والتلميح والاقتضاب والابتعاد عن الوصفية الاستطرادية وتوظيف الجمل الفعلية التي تسهم في تسريع السرد والضربة الاسلوبية الادهاشية المفاجئة.
(بعد ان ضرسته الخطوب واعتراك الليالي، جلس يستنطق افواه الدماء والدموع.. لم تلبث انسانيته في انائها المكسور فاحتوت وجهه اسراب طيور مهاجرة. كان انشغاله ساعة رمل وفنجان هوس ومصباح وحبوب كلمات متوفية. اهتبل نفسه من هول المدارك المتشحة بالزينة..لم يعرف طريق التوهج ولا الانطفاء. فنبتت في كفه ابجدية الانامل السود لتنجب ابناء نوح مرة اخرى، لكنه لم يشاهد السفينة فدخل داره وهو آمن..) ص85 ـ 86..
فالنص يعتمد النزعة البلاغية وتقنية الانزياح والصور الكاشفة عن قوة العاطفة وتكثيف الرؤيا باستخدام الالفاظ المجازية المستمدة من اليومي والمنبعثة من خلجات النفس السابحة في فضاءات متدفقة يتداخل فيها الخيال مع الواقع ليشكلا النسج النصي المؤسس على الاضاءة السريعة سواء كانت فكرية او وجدانية مع تركيز على جمالية السياق لتحقيق الوظيفة الانفعالية المحركة لذهنية المستهلك (المتلقي)..
وبذلك قدم المنتج (القاص) نصوصا سردية تفردت بلغتها الشاعرة الموحية وعباراتها المكثفة المتسمة بسعة الخيال والبعد الفكري الناتج عن ذات واعية تضفي على النص جمالية محققة المنفعة الفكرية والمتعة الروحية لمتلقيها..