سلام مكي
ملحمة جلجامش، النص الرافديني الخالد، الذي كان ولازال ينبوعا يغترف منه الشعراء والقصاصون والروائيون، إبداعاتهم وكتاباتهم، كان مغريا وجاذبا لـ « علي لفتة سعيد» القاص والروائي والشاعر والناقد، مثلما كان مغريا لغيره، في استنطاق النص أولا، وفي توظيفه لمحاكمة الحاضر. وهو نسق كتابي، سعى علي إلى جعله النسق العام لمجموعته القصصية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 2019. وقبل قراءة أول نص في المجموعة، يقفز إلى ذهن القارئ سؤال: ماذا بعد جلجامش؟ وهل سنجد هذا الما بعد في متن المجموعة؟ عنوان النص الأول « بعد ان رأى كل شيء» يحيلنا إلى سؤال آخر» ماذا بعد أن رأى كل شيء؟ قد نجد الإجابة عن السؤال الثاني، عن طريق السؤال الذي طرحه الكاتب في مقدمة النص: أيها السيد العظيم.. هل تعلم أن كل ما حدث على الأرض كان بسببك؟ هنا نتلمس إجابة شبه صريحة عن الاسئلة التي أثارها علي لفتة عن جلجامش والتي نرى أنه سعى من خلالها إلى تجاوز نص الملحمة، عبر فتح أفق جديد خاص به.
جلجامش، الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها، الذي أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة، الذي جاء بأنباء ما قبل الطوفان، ها هو اليوم، يقف في محكمة ثقافية وتاريخية، ليحاسب على أفعال حدثت في الزمن الحاضر؟ مفارقة ودهشة، سعى علي من خلالها إلى صدم القارئ وجعله يسعى جاهدا لمسك خيوط الملحمة من جهة، وحبال الحاضر التي تلتف حول عنقه من جهة أخرى. إذا: بعد أن عرف جلجامش، جميع الأشياء، يأتي دور الحساب، جلجامش الذي ثلثاه إله وثلثه الآخر بشر، يقف اليوم بكل هدوء وترقب للمحاكمة. فما بعد جلجامش، سيأتي الصوت المقموع، المهدور في مواخير الاستبداد والقسوة والعنف.. سيأتي دور الانسان، الذي سيحاكم ويحاسب الطغيان والتطرف في السلطة.. ويأتي علي بنسق خطابي، يبدو مألوفا للمتلقي، إذ بالإمكان الربط بين ما حصل في زمن جلجامش من مظالم وبين ما يحصل اليوم: انتصب واقفا، رواح يرمقني بنظرة حادة كتلك النظرة التي تمكن من خلالها صيد البراري.. النظرة التي جعلته يرى كل شيء في مملكته.. ولأنه مسكون بداء العظمة، لم ينتبه إلى حديثي، فرفع يده إلى الأعلى وراح يلوح للآخرين الهاتفين بإسمه..! هل يا ترى، يمكن أن يجد جلجامش مناصرين ومؤيدين بعد كل ما فعل بأوروك؟ فهو لم يترك ابنا طليقا لأبيه، ولم يترك عذراء طليقة لأمها، ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل.. لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار. ومع ذلك، ثمة من يهتف ويلوّح له! مفارقة أخرى، يسعى علي من خلالها إلى لفت نظر القارئ إلى مفارقة غريبة حصلت ولازالت تحصل في واقعنا اليوم! أن الناس تهتف وتلوّح لمن لم تنقطع مظالمهم عن الناس. ومع ذلك، يصر الصوت الجديد، الذي هو ما بعد جلجامش، على أن يطغى على ضجيج الدهماء، عبر التأكيد على جلجامش، ولكن بنبرة أشد وسؤال أعنف: سيدي العظيم، إنك أول من اخترع الطغيان في البلاد، وأول من منح الخلود جهدا لا يدانى في المعارك وحجة العشبة والصراع، وإن يكن ثلثاك ‘الها فتلك قيمة كان بالامكان أن تمنحها خصيصة التكوين، لكنك اخترت فعل القوة القاتلة ليكون الخلود مغمسا بالدم.. الثيمة واضحة، ومقصودة من علي، وكأنه يوجّه خطابه إلى الطبقة الحاكمة، التي أراد أن يستعيض عنها برمز من رموز الطغيان والتسلط» جلجامش» . الملك الذي ضاقت به البلاد والعباد، حتى شكته أخيرا إلى الآلهة التي قررت أخيرا وضع حد لأفعاله، عبر خلق غريم له» أنكيدو» .
جلجامش، المتسلط، يبرر أفعاله، ويلبسها ثوب القداسة والدين. يقول: .. أنا لم أكن حاكما غير عادل، بل كنت أسعى لإسعاد الناس والرعية.. فهم يجدون في أفعالي فرحهم المؤجل…. كنت أمنح العذرية خلودا لكي يبقى شعبي خالدا ومنتصرا.. أنا لا أفعل شيئا دون مشورة الآلهة وما تأمرني به، لذلك أنا استأذنها في كل مرة أدخل فيها على عروس.. هذه التبريرات التي تشبه إلى حد كبير، ما يطلقه « جلجامش اليوم» من تبريرات للفشل والتردي والتصدع في الحياة العامة والخاصة وفي كل شيء.. إضفاء القداسة على الأخطاء، وإلباس الفشل ثوب القدسية والربط بينها وبين الآلهة والمقدس، هو نسق قديم قدم العراق، ولازالت السلطة تستخدمه اليوم، للتبرير. وللأسف، هنالك من يلوّح ويهتف باسم « جلجامش» .. ولم يكتف علي لفتة، بالنص الأول، في الكشف عن ثيمة المجموعة، بل تكاد أن تكون جميع النصوص، ساعية لفضح الماضي، والحاضر في آن واحد، وهو أمر يسعى علي لفتة ليكون نسقا خاصا به. الكتاب يقع ضمن محاولات المثقف، لقول كلمته في ما يجري من أحداث ولكن عبر آلياته الخاصة والتي يريد من خلالها أن يحافظ على دوره كمثقف، عبر ترك مسافة بينه وبين الاشتغالات الأخرى.. وعلي هنا، استطاع أن يؤسس نسقا خاصا به، وبالمثقف بصورة عامة، عندما قدّم تصورا ثقافيا عن البعد التحريضي الذي ينتاب المثقف لحظة تشخيصه مكامن الخلل والعلل في المجتمع وفي السلطة السياسية تحديدا، فكان أن قام بمحاكمة أدبية وثقافية، عبر استحضار رمز ثقافي، وتاريخي، واسطوري، ليجعل منه هدفا لمشرطه النقدي.