قراءة في قصص أمجد توفيق …
محمود خيون
منتصف السبعينيات تعرفت على أمجد توفيق عن طريق أخي الكبير الروائي علي خيون .. كان شابا يافعا طافحا بالحيوية والنشاط وكأنه يريد أن يخلق أشياء كثيرة ..كان همه الوحيد هو أن يقدم الخير بأعلى مستوياته .. عرفته يحمل قلبا يتسع محبة لجميع من حوله .. حينئذ حسدته على ذلك وحاولت تقليده كراهب وأصبت في ذلك فكان الحصاد خيرا .. وهو محبة الناس وديمومة الصلة بالآخرين سواء كانوا من الوسط الثقافي أو الأجتماعي أو الوظيفي .. هكذا هو أمجد توفيق الشاعر والروائي والكاتب والمعلم والأنسان .. أفترقنا بسبب الظروف القاهرة التي مرت بها البلاد .. ثم شاءت الأقدار أن نلتقي ثانية .. كنت أراقبه عن كثب وأقرأ مايكتب عندما يقع بين يدي أي منجز أدبي له وكنت أحتفظ بمجموعة ملاحظات لقراءات سابقة ..يذكرني أمجد توفيق بمارك توين الأميريكي الضائع بين عقله وقلبه .. يكتب الشعر والفلسفة ويغور في أعماق الحكاية التي سرعان ما تتحول الى عمل روائي كبير ومتميز .. واليوم وأنا أتصفح مجموعته القصصية الأخيرة ( الخطأ الذهبي ) ..أقف حائرا من أين أبدأ قراءتي لما ضمته من حكايا وحواتيت كتبت بلغة سردية شعرية .. فأنت عندما تبدأ القراءة في ( قال السياسي الكبير لطبيبه الذي أنهى فحصاً روتيناً : – كيف تجد الألم ؟؟يجيب ليس ثمة ما يخشى منه فصحتك جيدة ..قال السياسي وكأنه يحدث نفسه – لم أقصد وضعي الصحي .. نظر الطبيب بوجه ببلادة من نوع ما .. فأبتسم السياسي وهو يقول – كنت أقصد وضع البلد ..!! لم يبدو على السياسي أنه ينتظر أجابة لكنه سمع الطبيب يقول :- فخامتكم يتلقى تقارير من أجهزة متخصصة وقادرة على الرصد والتحليل الاستنتاج وانا لااملك سوى رأي شخصي يعوزه التوثيق .. بل أنه أقرب الى الانطباع الأول لا أكثر )… في يقيني أنه طبيب المسؤول الأعلى في الدولة مثل ( طباخ الريس ) .. في هذا الحوار الصاخب والمشحون بمئات التساؤلات .. يعود بنا الكاتب ليس الى الوراء وأنما يعيد لأذهاننا الحالة المتردية التي عاشها وتعيشها البلاد نتيجة الأخطاء الكارثية التي ورثناها من عهود مضت تجدد فيها الخراب والدمار لكل شيء حتى طالت عقلية الأنسان ومبدئيته .. وهنا تظهر صورة أخرى من صور الألم والفجيعة التي صورها لنا الكاتب بوضوح تام ( تبخرت الراحة التي شعر بها الطبيب وتفتت ذراتها في هواء مشبع برائحة الدم .. ذلك أنه دخل المستشفى في الوقت الذي كانت فيه سيارات الأسعاف تنقل قتلى وجرحى سقطوا في معركة دارت رحاها في قلب مدينة بغداد ..بذل الطبيب أقصى جهده للحفاظ على حيوات كانت تتسرب أمام أنظاره فلا تخلف الا لون الفجيعة ومرارتها القاسية .. كان يردد مع نفسه لو أن القتلة يدركون حجم العذاب هل كان بوسعهم الأستمرار ..) .. بهذا التوصيف الرائع والسلس والأسلوب الحواري البسيط والمركب بشفافية السرد التي لايمكن لأي سارد متمكن ومحترف أن يمارسها في الكتابة الأ اذا كان يمتلك أدوات البناء الفني القصصي والروائي مثلما أمتلكها أمجد توفيق في ” الخطأ الذهبي ” وشوقي كريم في ” قطار أحمر الشفاه ” وعبد الستار ناصر في ” تلك الشمس أحبها ” وآجاشا كرستي في ” المرأة المكسورة ” و “شرق المتوسط ” لعبد الرحمن منيف والتي تعد من الروايات الرائدة التي تحدثت وبكل جرأة لحال الأوضاع الأجتماعية والسياسية في بلادنا العربية ..من دون تحديد أسماء معينة أو ذكر مدينة أو شخصية معروفة ..وأنما جاءت مسترسلة لواقع ٍ دامٍ ومريضٍ عانى ويعاني من تهورات وأخطاء أناس ٍ ركبهم الغرور فأرتكبوا مئات الأخطاء الكارثية التي آلت في منزلق الهاوية .. وكان لابد للكاتب أن يلجأ الى الرمزية أو الربط بين الواقع والأسطورة مثلما حدث في رواية لبابة السر لشوقي كريم والتي تحدثنا عنها في مناسبات سابقة …وبصورة أكثر شاعرية وعذوبة يصطحبنا القاص أمجد توفيق في رحلة أخرى من رحلاته المفعمة بحب الحياة وكراهية الموت وصانعيه على الأرصفة والحواري المتعبة التي تحوي بين دهاليزها وأزقتها القديمة الناس البسطاء ..( أن لكل شجرة سراً يكتشفه من يحمل قلباً جسوراً في صدره ، وحلماً في رأسه ، دونهما ، ويصبح السر متاهة مكتوب على من يدخلها الموت ويعرف القرويون أن نضج الثمرة التام يعني سقوطها ولا أمل لاحد بأنتظار سقوط ثمار الله ، لانهال اتسقط الأ في حب عميق … تنسج الحقائب خيوط الأسطورة تسحب من الأحلام .. وخيوط الحقيبة من صوف الماشية .. يمكن أن تملأ حقيبة بالأساطير .. ويمكن للاسطورة أن تنسج حقائب ..) .. ويكمل الكاتب هذا المقطع الشعري والسردي المشحون بآهات وحسرات كبيرة تسدل ستارها على عيون وقلوب المحبين للحياة والتطلع الى الغد المنشود ..( وعندما يفور الدم في أثداء العذارى وتتفتح الخلايا في أنتظار النداء ، تكون ثمار الله غافية في حقيبة يحملها شاب يظلل الحلم جسارة قلبه يدخل القرى كطائر ، ويطوف البيوت ليوزع ثماره ..) – أعتقد أن الكاتب أراد بهذه الصورة أن يجسد مقام الشهداء وتضحياتهم التي لم يكتب لها الخلود كما أراد صانعوها ، فقد تناثرت في مهب الريح وداستها أقدام مشوهة غريبة بعد أن تم سرقة النصر من بين حدقات عيون اليتامى والأرامل بسبب الأخطاء الذهبية الكارثية …وهنا يعيد لنا الكاتب الكرة مرة أخرى في القول ( القلب الجسور يوفر للعذراء سكرتها الأولى وهي لاتكون الأ بهذه الثمار ..)-
لقد أبدع الكاتب في الوصف والتعبير وجعل من مفرداته تحمل موسيقى شعرية وبأدق تفصيلاتها ومعانيها فهو هنا يؤكد لنا حالة الأقتدار الطوعي وليس الأجباري عند الرجال في حال عزمهم على الأقدام بشجاعة فائقة لفعل شيء ما أو تحقيق مرام قد يترتب عليه الكثير من المواقف … وهذا أوجزه في جملة واحدة ” قلب الأسد” وقد استطاع أمجد توفيق وبحبكة ومهنية وحرفية شديدة التركيز الى ربط هذه المواقف بمواقف أخرى متشابه في المعاني والدلالات فيردف ( الشجاعة كلمة والكلمة موقف ، والموقف انسان ذو ذاكرة فلا يعقل أن يطالب حيوان أو طير أو شجرة بموقف لأنهنم ليسوا بشراً أو أنهم لايتذمرون …وأذا ما ارتبط الموقف بالإنسان ، فلا شيء يزينه أكثر من الصدق وعندها سيكون امتيازاً عظيماً أن يتمتع الموقف الأنساني بصدق حيوان أو طير أو شجرة ذلك لانهم لايعرفون غيره – غير الصدق – ويتمتعون باعفاء مطلق عن موجبات الحركة أو الثبات )- وبهذه التنظيرات الفلسفية المكتظة بالدلالات .. يذهب بنا الكاتب بعيداً الى قراءات سابقة لروايات فلسفية مثل كتاب ” جنون الفلاسفة ” لنايجل روجرز وميل ثومبثون ..والذي يبحث فيه عن نظريات معمقة بشأن الثقافة والنظام الأجتماعي .. اذ يؤكد بأن حياة العقل لاتقود بالضرورة
الى حياة عقلانية أو ربما أستطاع أمجد توفيق أن يعيدنا الى “محاورات افلاطون ” التي ترجمها زكي نجيب محفوظ خير ترجمة ..وأني لاحسد الكاتب على هذه القدرات الفذة في الكتابة التي يحق لي أن أصفها بأنها مجردة عن السرد العادي الذي نقرأه في روايات وقصص اليوم أنه أسلوب جديد ومميز جاء به الكاتب وبأبداع رصين ومتألق قل نظيره ..ولعله في هذه المرة يكشف عن سر كبير بأن أخطاء أصحاب القرار أخطاء ليست سهلة وبسيطة كما يتصورها البعض بل هي حالة خطرة ومغامرة كبيرة وبائسة قد تقود الى السقوط في حافة الهاوية .. وهنا ما يؤكد ذلك ( الخطأ الذهبي نقطة عليا ، ولأنه كذلك فهو يفتح قياساً الى الفهم الذي يمنحه التناقض على مساحة غير محسوبة من صحة واقعية أو مفترضة .. أنه يتضمن كسر حاجز الأعتياد وحاجز السكون وحاجز المنطق الذي يرعاه العقل المغرور ) ..وهذا الأمر يتضح جلياً بأن الغرور قد يسبب المهالك على المستوى الفرد أو المجموعة ولكن اذا كان ذلك الغرور لقوم ٍ بأكملهم فماذا سيحل بهم غير الدمار والخراب والرجوع الى عصور قديمة وبالية .. وحقيقة الأمر أن الغرور قد يصيب الناس بالتخلف والجهل الحضاري أي في زمن التكنلوجيا والعلم تبرز هذه التناقضات على أشدها فتكون كالأرضة تأكل وتنخر كل ما يصادفها …. لكن أمجد توفيق يعود ليبرر لمن أرتكبوا تلك الأخطاء الذهبية بالقول ( دفع كثيرون في أخطاء ترابية كثيرة تلك الأخطاء التي لاتشرف النفس العظيمة بل أنها تتضح بها وتقتل أية نقطة تألق فيها وآن لنا أن ننفض التراب ونبحث عن المعدن النفيس ،عن الروح المعتدة الممتلئة ، التي تخضبت الخطأ الذهبي )-
أقول أن مجموعة ” الخطأ الذهبي ” للروائي والقاص أمجد توفيق تعد واحدة من أهم ماكتب عن الحرب والدمار والأخطاء الجسيمة التي ولدت المآسي والويلات وبأسلوب مبسط .. أنها تذكرنا أن تطابق عامل التمثيل مع رواية ” لمن تقرع الأجراس ” لأرنست همنغواي التي أثارت جدلاً واسعاً بين أوساط النقاد والكتاب والأدباء وهي سرد مثير لحكايات عن الحرب الأهلية المدمرة في أسبانيا التي صارت تشبه الى حدٍ ما الحروب التي أورثناها …
وإزاء ذلك نتساءل الى أين نحن ماضون ولمن تقرع الأجراس ؟؟!