مقاربة الايقاع والبنية الشعرية
ريسان الخزعلي
( 1 )
السياب يتجدد باستمرار ، يتجدد بشعره لا بمناسبة رحيله في 24 /12 /1964 .. ، تلك المناسبة التي تُقرّبنا اليه سنوياً ، تقرّبنا من اعادة قراءة شعره ، من مشاهدته ايقاعياً وسماع صوته الشعري المغاير، من التماس مع غربته ، تلك الغربة التي لم تكن في جوهرها غربة ً مكانية ً حتى وان تشاغلت بالمكان ، بل غربة وجودية / زمانية أملتها ظروف وتحولات سياسية واجتماعية ونفسية.
إن َّ السياب متطامن مع المكان ، وإن َّ غرابة تسميات المكان ، المكان السابق لوجوده ، قد أضفت ملمحاً جمالياً ( باشلارياً ) على شعره وبدراية الشعرية وفعل الشاعرية على السواء ، حتى ظن َّ البعض أن َّ هذه التسميات ليست عراقية : بويب ، جيكور ..، من هنا كان اشعاع المكان يبدأ من العنوان ، من مركز القصيدة ، من تشكيل البنية الشعرية ، وبإتساق مع الايقاع وبإدراكٍ واع ٍ لغرابة التسميات . وحين يكون الاثنان ، بويب وجيكور ، قريبين من مرأى السياب ، يكون التصعيد الشعري قريباً من الحياة ، الخارجية والروحية ، ويكون الشاعر في انصات ٍ آخر لا يشغله الزمن ببعده الوجودي كثيراً بعد َ ان تداخل بويب وتداخلت جيكور في الزمن الشعري / زمن السياب المكاني لحظة الكتابة ، أي الزمن الذي أوقفه المكان ، كما يحصل مع الصورة الفوتوغرافية . ولو كتب شاعر آخر الآن عن بويب وجيكور ، فإن َّ الكتابة ستقع في فخ المكان المكشوف ، وسنُحيلها الى زمن السياب لا غير.
( 2 )
غربة السياب ، غربة زمانية ضاربة في اعماقه الروحية أينما حلَّ ، ومثل هذا التوصيف يُداري قناعته ويقينه واعتداده الشعري ، كما أن هذا الاعتداد قد فجّرَ فيه هاجس المغايرة وتلمّس ( الهدم )..، هدم البناء الشعري الأول وفتح فضاء الايقاع الى منتهاه ، وبذلك انتقل من البناء الى الهدم ومن الهدم الى البناء الجديد . لقد هدم الشكل ومط َّ الايقاع ، إنه ُ هادم وبان ٍ في الوقت ذاته ومقارِب للايقاع مع البنية الجديدة من اجل ِشكل ٍ جديد ، وتعبير ٍ ومحتوى جديدين ايضاً . يقول أدونيس في كتابه ( قصائد بدر شاكر السياب .. مقدمة ومختارات )…: بدر شاكر السياب من شهودنا الإوَل على الحضور ، ولادة محتوى جديد ، وولادة تعبير جديد . من دلائل هذه الشهادة رفض الفصل بين التعبير والحياة ، والشكل والمحتوى : ليس الشكل وعاء المحتوى أو رداءه أو انموذجاً أو قانوناً ، وانما هو حياة تتحرك أو تتغيّر في عالم يتحرك . فعالم الشكل هو كذلك عالم تحولات.
( 3 )
نثبّت هنا نص قصيدة / لأني غريب / من مجموعة ( المعبد الغريق ) كما ثبّتها السياب في مسعاه الفني / الجمالي – الهدم والبناء والمقاربة الايقاعية ، حيث صورة للشكل وصورة للتحول الايقاعي:
1 لأني غريبب
2 لأن َّ العراق َ الحبيب
3 بعيد ٌ ، وإنّي هنا في اشتياق ْ
4 إليه ِ ، إليها ..أُنادي : عراق
5 فيرجع ُ لي من ندائي نحيب
6 تفجّر َ عنه ُ الصدى
7 أحسُّ بأنّي عبرت ُ المدى
8 الى عالم ٍ من ردى لا يُجيب
9 ندائي
10 وأما هززت الغصون ْ
11 فما يتساقط ُ غير َ الردى
12 حجار ْ
13 حجار ٌ وما من ثمار
14 وحتى العيون
15 حجار ٌ ، وحتى الهواء ُ الرطيب
16 حجار ٌ يُندّيه بعض ُ الدم ِ
17 حجار ٌ ندائي ، وصخر ٌ فمي
18 ورجلاي َ ريح ٌ تجوب ُ القفار .
إن َّ الهدم في الشكل / البنية قد تمَّ في هدم البناء الأساس الثماني الأُفقي في النظام الخليلي : فعولن فعولن فعولن فعولن ..فعولن فعولن فعولن فعولن الى تراتبية ٍ جديدة / بناء جديد – يأخذ البناء التفعيلي : 2-3-4-4-4-3-4-4-1-3-4-1-3-2-4-3-4-4 وحسب الترتيب الكتابي للقصيدة ( 1-18).
إن َّ العودة الى الشكل المهدوم عروضياً بالإمكان أن تتم بجمع التسلسلات : 3+4 أو4+5 أو7+8 أو17+ 18أُفقياً لكنَّ المعنى سوف لن يتحقق بالكامل كما في 3+4 أو7+8 أو 17+ 18 ومثل هذه العودة لا يُريدها السياب لأنه في موقف هدم ، ولأن المعنى الدال أراد له أن يكتمل في بنيتين :1-9 و10-18 وبمقاربة ايقاعية/ نغمية واحدة متنوعة التكرار بالمنطق الإحصائي ، حيث جاء التكرار على النحو الآتي:
التكرار العدد
_____ _____
الرباعي 9
الثلاثي 5
الثنائي 2
الأحادي 2
ومن تحليل الشكل البياني رقم 2 رياضيّاً نكتشف أنَّ ( صيحة ) السياب النهائية / لأني غريب / بأنها – من الناحية الصوتية – ليست صيحة خطيّة ( linear y=x ) كما في الشكل رقم 1 وانما صيحة بهيأة القطع المكافئ(parabola y=x2 )أي أنها متصاعدة أُسيّاً ، رغم استخدام وحدات الايقاع ذاتها ، الّا أنها عُزفت بأوتار إضافية ، وتلك هي براعة السياب التجديدية / التحديثية.
السياب يتجدد في كل قراءة ، لأنه من الحياة ومع الحياة وفي الحياة ، وفي هذه المقاربة بين شكل البنية الشعرية والايقاع ، نلاحظ كم كان الهدم بنائياً ؟ وكم كان البناء هدمياً ؟ ..، وفي كلا التوصيفين : الهدم والبناء ، ينهض الشكل والمعنى والمحتوى ، في بناءٍ جديد ، وكأنه خارج المحدد الخليلي ، حيث التنويع الموسيقي المغاير للعزف الأول…