يوحي المعنى الأصلي لكلمة العقم في العربية وهو فقدان القدرة على الإنجاب، بانقراض النوع واختفائه من هذا الكون، أو عدم صلاحيته للبقاء، وسط تحديات الطبيعة القاسية. وقد استخدم الأطباء المصطلح ذاته في عملية إبادة المخلوقات الصغيرة، الضارة بالإنسان، أي التعقيم.
بل إن البعض يعتقد أن العقم هو الطريق إلى النهاية الحتمية للعالم، أو هو الوسيلة المثلى لاستبدال الجنس البشري بآخر، دون الحاجة لاستخدام العنف، أو حدوث الكوارث، أو نزول العلل والأسقام!
وقد اتسعت مدلولات هذه الكلمة حتى غدت تستعمل في مواضع عدة، ليس أهونها العقم الفكري، أو العجز عن الإتيان بصيغ جديدة للحياة. فالبقاء في مكان واحد، أو الثبات عند حال معينة، يعنيان الموت البطيء، الذي ينتهي عادة بالفناء التام.
وقد وجد أن عدد سكان البلدان المتحضرة يزداد بشكل مضطرد، حتى يصل إلى رقم كبير، في الأحوال العادية، في حين يتناقص في البلدان الضعيفة. وقيل أن تعداد العراقيين في العصر العباسي تجاوز الثلاثين مليوناً، في ما لم يتعد في مستهل القرن العشرين المليون وربع المليون إنسان!
ومعنى ذلك أن الشعوب تحتاج على الدوام إلى التفكير والإنتاج والتدبر. وإذا ما اضطرت إلى الانكفاء والتقوقع والجمود، فسينالها ما نال أسلافها من ضعف وقلة وهوان.
وفي لحظة من لحظات التاريخ، كانت شعوبنا السادرة في الظلمة، والغارقة في الجهل، تعامل بنوع من الازدراء، مثل طفل قاصر، يقوم الآخرون بالتصرف بأمواله، وإدارة شؤون حياته، بالنيابة عنه. وهذا هو في الواقع مفهوم الانتداب الذي فرضه الحلفاء على البلدان المنسلخة من الامبراطورية العثمانية في الحرب الأولى، وهي العراق وبلاد الشام.
وبالطبع فإن الحلفاء لم يحسنوا التصرف، أو ينجزوا المهمة بنجاح، لأن إدارتهم لهذا الملف لم تكن أمينة. بل تحولت في الأغلب إلى عملية «تعقيم» حقيقية حتى يتعذر على هذه البلدان في المستقبل أن تكون منتجة أو ولادة. وحتى تظل لأمد طويل في حضانة الراعي الأول!
إن سنوات طويلة تزيد على القرن مرت على هذه الحال، وباتت أقرب ما تكون إلى الذكريات المرة، التي يتدارسها الناس لاستحصال العبرة أو استخلاص الدروس. لكن الحقيقة أن هذه الشعوب مازالت تعاني من «العقم» الذي عاشت فيه زمناً طويلاً. ومازالت تشعر أنها غير مؤهلة للإنتاج. حتى أن الآلات التي جلبت من الخارج في حقبة ما، تحولت لديها إلى «سكراب» يحتاج إلى من ينفض عنه الغبار!
ولم تزل الأفكار التي تدور في رؤوس النخبة تردها من الدول الحاضنة، بحجة أنها تقود إلى التحديث، أو تفضي إلى التقدم. لكن شيئاً من هذا لم يحدث على الإطلاق رغم مرور السنين. أما ما سوى ذلك من مفاهيم وطروحات فإنها أبعد ما تكون عن وعي النخبة، لأنها تعني انتهاء مفعول التعقيم بشكل نهائي. وهذا ما لم يرفع عنه الحظر حتى الآن.
محمد زكي ابراهيم