شكيب كاظم
اعترف ابتداء، أنه ما أن أعارنيه أو أهدانيه، صديقي الدكتور قيس كاظم الجنابي، هذا الكتاب الذي ألّفه الدكتور عبد الواسع الحميري ووسمه بـ (في آفاق الكلام وتكلم النص)، وتولت دار الزمان للطباعة والنشر بدمشق نشر طبعته الأولى عام 2009، اعترف بأني لم أسمع بهذا الباحث اليمني الرصين، على الرغم من كثرة قراءاتي ومتابعاتي، مما يؤكد عسر وصعوبة متابعة هذا السيل المنهمر من المطبوعات التي تنفحنا بها دور النشر، وهالني ان هذا الباحث الجاد، أصدر قبل كتابه هذا ستة من الكتاب على مدى نحو عقد من الزمان، إذ أصدر كتابه الأول الموسوم بـ (الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية) عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ببيروت عام 1999 وأصدر كتابه السادس وعنوانه (خطاب الضد: مفهومه- نشأته- آلياته- مجالات عمله) وصدر في طبعته الأولى عن دار الزمان ذاتها عام 2008 وبين هذين التاريخين أصدر كتبه الأربعة الأخرى.
ولقد كشف الباحث الدكتور عبد الواسع الحميري، أن لم يكن همه الأول في هذه الدراسة الكشف عن أدبية الكلام، الأدبي عموماً، لأن حقل الأدبية عموماً يعد حقلاً محدود المدى، محصور الأهمية والفاعلية كما لم يكن هدفه الكشف عن شعرية الكلام الشعري لأن الشعرية ليست إلا سمة نوعية متحققة أيضاً في جنس خاص من الكلام، وهو الكلام الشعري، وإن تسربت هذه السمة الى بعض الأجناس القولية الأخرى، فصرنا نسمع اليوم بشعرية القصة وشعرية الرواية وشعرية السرد.
فلقد آثر الباحث عبد الواسع الحميري في كتابه المهم هذا ان يسلط الضوء على ظاهرة تكلم الكلام الحي، وما به تكون حياته وحيويته، فضلاً على الكيفية التي يتكلم بها الكلام الحي كلامه الخاص عموماً، لأن من شأن تسليط الضوء على ما نسميه بـ (تكلم الكلام الحي) عموماً أنه يفضي بنا في نهاية المطاف، الى الكشف عما به يكون الكلام ذاته لا سواه، أو عما به يكون هو هو لا غيره، أي عما به يتكون الكلام أو عما به يتشكل ويُشكل ليفضي من ثم الى الكشف عن أشكال تكلمه/ وجوده الخاص، وهذا يقتضي البحث في أخص خصوصيات نصوص الكلام عموماً أو فيما هو في أساس ما هية تلك النصوص، أو عما يشكل جوهر هويتها النصية، وذلك لأن الأصل في نصوص الكلام أنها إنما تستمد وجودها/ قيمتها… فقط من شكل تكلمها أو من طريقة تكلمها الخاص عموماً.
الباحث الأكاديمي عبد الواسع الحميري، وهو يبحر بنا في هذا العباب المتلاطم من الأفكار والمناقشات وتقليب الأمور على أوجهها المتعددة، إنما اسعفته في اجتياز هذا العباب، ثقافة واسعة وقراءات مستفيضة في تراث العرب القديم، وكتاباتهم المحدثة، فضلاً عن استفادة من المناهج النقدية الحديثة، فتراه ينتقل بك من أبي تمام ومقولته المدوية في من عاب عليه قوله ما لا يُفهَم، وأنت لماذا لا تفهم ما يقال، أو مقولته الأخرى، في من عاب عليه، والناس غالباً عيابون ذامون، توجهه بقصائده المدحية الى أكثر من ممدوح فأجابه هن (أي قصائد المدح تلك) بُنَيَّاتي أُنكِحهُن من شئت، ومن ثم ما يذكره أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الازدي (390- 456هـ)، في كتابه النقدي الرصين (العمدة. في محاسن الشعر وآدابه ونقده) ما نصه (ومن الشعراء من ينقل المديح من رجل الى رجل وكان ذلك دأب البحتري وفعله أبو تمام في قصائد معدودة ومنها:
قدك أتئب أربيت في الغلواء
نقلها عن يحيى بن ثابت الى محمد بن حسان، فأما الذي قال: (هن بنياتي أنكحهن من شئت فهو معذور ان لم يُثَب فأما إن أثيب فذلك منه قلة وفاء، وفرط خيانة)، تراجع ص143، من الجزء الثاني طبعة دار الجيل بيروت- الطبعة الرابعة 1972.
ولقد حذا حذو أبي تمام والبحتري في عصرنا هذا، شاعر العرب والعراق الأكبر الجواهري، إذ أنه مدح حكمة سليمان رئيس الوزراء العراقي الأسبق الذي نصبه الفريق بكر صدقي، قائد أول انقلاب فتح شهية العسكر نحو السلطة وضد الشرعية الدستورية في 26/ تشرين الأول/ 1936، الذي بلغ به الأمر حداً كبيراً في تأييد الانقلاب، أن أصدر جريدة سماها (الانقلاب) نشر فيها قصيدة مدوية عنوانها (تحرك اللحد) خاطب فيها رئيس الوزراء حكمة سليمان قائلاً:
أكان للرفق ذكر في معاجمهم- أم عن حكمة أو أصحابه خبر
حق إذا أديل الحكم الملكي، ألقى الجواهري القصيدة هذه في تجمع جماهيري واسع في ساحة الكشافة استجابة لدعوة جبهة الاتحاد الوطني، التي تأسست عام 1957 حتى إذا حصلت أحداث تموز 1958 انفرط عقدها لتنازع الأحزاب المؤتلفة فيها، وخاصة البعث والشيوعي أقول استجابة لدعوة الجبهة للاحتفال بذكرى التظاهرات التي اندلعت في كانون الثاني 1948 احتجاجاً على عقد معاهدة بورتسموث التي وقعها رئيس الوزراء صالح جبر مع رئيس وزراء بريطانيا بيفن، وكانت استباقاً ذكياً لما سيحصل إذ أقيم الكيان الصهيوني بعد أشهر من هذه التظاهرات العاطفية بعيداً عن العقل التي وأدت المعاهدة الاستعدادية التي كانت تهدف الى تسليح الجيش العراقي بالأسلحة الحديثة دفاعاً عن فلسطين ووأد الأطماع الصهيونية فيها.
أقول وإذ أطل الجواهري الكبير على حشود الناس حتى ألقى على مسامعهم القصيدة ذاتها لكن بتغيير طفيف.
ليكون البيت المشار إليه آنفاً:
أكان للرفق ذكر في معاجمهم- أم عن كريم أو أصحابه خبر
ولقد صحح لي ما وقعت فيه من وهم صديقي الباحث الرصين مهدي شاكر العبيدي بمقالته المنشورة في جريدة (الزمان) اللندنية يوم الأربعاء 28/4/2004 (العدد1791) تعقيباً على مقال لي منشور في الجريدة ذاتها في 8/3/2004.
إني إذ اعتذر للقراء عن هذا الاستطراد فإنما لأقول ان بعض الكتب يصعب الحديث عنها باجتزاء كونها مسبوكة، سبكاً رصيناً يصعب عليك مغادرة بعض فصولها من دون الإشارة إليه، ومن هذا اللون كتاب (في آفاق الكلام وتكلم النص) للأستاذ الدكتور عبد الواسع الحميري الباحث اليمني الرصين، وهادفاً الى توجيه أنظار الدارسين والقراء الى منجزات هذا الباحث الذي أرى انه لم ينل حقه من الدراسة والتنويه والتثمين.