هادي ياسين
عودة أيقونة السينما « صوفيا لورين « الى التمثيل و الظهور على الشاشة و هي في سن السادسة و الثمانين ، تُعدُّ ـ بحد ذاتها ـ حدثاً سينمائياً بامتياز و هي تمثل دور البطولة في فيلم ( الحياة المقبلة ) ، الذي يمكن اعتباره تحية تبجيل من ابنها مخرج الفيلم « إدواردو بونتي « لوالدته ، التي لم تعد أيقونة للسينما العالمية فحسب بل تعويذة للسينما الإيطالية أيضاً .
سيناريو الفيلم الذي كتبه « أوغو تشيتي « و « إدواردو بونتي « نفسه مقتبسٌ عن رواية ( الحياة قبلنا The Life Before Us ) للكاتب و الدبلوماسي الفرنسي « رومان غاري « ( 1914 ــ 1980 ) الذي كان يكتب باللغتين الفرنسية و الإنجليزية ، و قد تم إخراج هذه الرواية سينمائياً عام 1977 ، بعنوان ( مدام روزا ) من بطولة الممثلة الفرنسية « سيمون سنيوريه « ( 1921 ــ 1985 ) .
يمثل فيلم ( الحياة المقبلة ) سيرةً ذاتية متداخلة لشخصيتين اثنتين معاً ، هما السيدة اليهودية الناجية من معسكر أوشفيتز النازي « مدام روزا « ( صوفيا لورين ) و الصبي السنغالي المسلم « محمد « ( إبراهيم جوي ، و هو ممثل بارع و سيكون له مستقبلٌ في السينما ) ، الذي تؤويه في بيتها مقابل 750 يورو ، يدفعها لها الطبيب النفساني دكتور « كوين « ( ريناتو كاربنتيري ) ، و هذا الصبي يروي سيرته على لسانه بنفسه ، فيما يتولى الفيلم رواية سيرة « مدام روزا « .
يتسكع الصبي في شوارع المدينة ، يسرق ، و يقوم بأي عمل طائش لصبي بلا رعاية أهلية ، حتى أنه يتجه الى ترويج المخدرات لأشخاص يعرفونه و يتعاملون معه . فتضطر « مدام روزا « الى أن تطلب من السيد « هاميل « ـ لعب دوره الممثل الإيراني « باباك كريمي « ـ أن يشغله لديه في محله ، و هو رجل يبدو أنه عربي مسلم ، بدليل حديثه عن القرآن و وضعه آية قرأنية في محله مكتوبة بخط الثلث و بوستر للفيلم العربي ( في بيتنا رجل ) ، و هو من إنتاج عام 1961 ، بطولة « عمر الشريف « و « زبيدة ثروت « و « رشدي أباظة « ، أو أن السيد « هاميل « إيراني مسلم بدليل عمله في تجارة السجاد .
أما الصبي « مومو « فليس مهتماً بإسمه ( محمد ) ، بل يرفض أن يُنادى به ، بذريعة أنه إسمٌ طويل ، و يفضل عليه إسم ( مومو ) ، و يخبر السيد « هاميل « بأنه لا يعرف إن كان مسلماً . و هذا الصبي ذو شخصية مستقلة ، فطنٌ و حاد الذكاء ، و جريء ، و يسأل أسئلة واقعية . و على الرغم من مشاكساته إلا أنه واقعي في تفكيره و في سلوكه ، و تقوده واقعيته و يقوده سلوكه إلى أن يدرك حقيقة الواقع و يفهم معنى الحياة و أن يتلمس نسيج العلاقة الإنسانية ، ما يدفع دموع المشاهد الى النزول ازاء أكثر من مشهد .
توقفت « صوفيا لورين « عن التمثيل « منذ عشر سنوات ، و كان آخر فيلم لها هو فيلم ( الصوت الإنساني ) الذي هو من إخراج ابنها « إدواردو بونتي « أيضاً ، و يصور تداعيات امرأة عاشقة تعيش حالة الفقد و وهم عودة الحبيب بعد الحرب العالمية الثانية .
و هذه المرة تعود الى التمثيل بقوة و بتحدٍ ، على الرغم من تقدمها في السن ( 86 عاماً ) ، و كأنها تستعيد مجدها السابق ، مجد « صوفيا لورين « التي خطفت جائزة أوسكار أفضل ممثلة عام 1962 عن دورها في فيلم ( امرأتان ) الذي تدور أحداثه أثناء الحرب العالمية الثانية و المقتبس عن رواية بذات العنوان للروائي الإيطالي « البرتو مورافيا « ، و هو من إخراج « فيتوريو دي سيتشا « ، و عن الفيلم إياه حصدت « صوفيا لورين « جوائز مهرجانات ( كان ) و ( فينيسيا ) و ( برلين ) .
و « صوفيا لورين « كانت قد تقدمت الى مسابقة ملكة جمال إيطاليا عام 1950 . في ذلك الوقت كانت في السادسة عشرة من عمرها ، و كان منتج الأفلام الإيطالي « كارلو بونتي « عضو لجنة التحكيم ، و هو الذي اُخذ بجمالها و سحر فتنها ، فطلق زوجته « جوليانا « ليتزوجها ، فتبدأ انطلاقتها السينمائية من إيطاليا . و من ذلك الزواج الوحيد ، بالنسبة لـ « صوفيا « ، أنجبت إبنيهما « كارلو بونتي الابن « و « إدواردو بونتي « الذي يبدو أنه مصممٌ على تخليد مسيرة والدته .. من خلال إخراجه لأفلام لها في هذه السنوات الأخيرة من عمرها .
كلا الفيلمين اللذين أخرجهما « إدواردو بونتي « تظهر فيهما بطلة الفيلمين ، والدته « صوفيا لورين « و هي تعاني من تداعيات الحرب العالمية الثانية ، على الرغم من اختلاف موضوعَي الفيلمين . في فيلم ( الصوت الإنساني ) تظهر في دور عاشقة فقدت حبيبها كضحية للحرب ، ولكنها تتوهم عودته و تطلب من عاملة منزلها طبخ الوجبة التي يحبها . في الفيلم الجديد ( الحياة المقبلة ) يُظهِرها المخرج ( ابنها ) في دور الضحية اليائسة من عودة أي غائب ، لأنها هي نفسها دخلت في دور الغياب . لذلك فهي تلوذ بالقبو ، لتعيش حالة من الصفاء و هي تحاول التخلص من كوابيس معسكر ( أوشفيتز ) النازي الذي نجت منه .
فيما تذكّرنا قصة الصبي « مومو « بحكاية المومس في رواية ( الطاحونة الحمراء ) بطريقة معكوسة ، ففي تلك الرواية يطلب الزوج من زوجته التوقف عن تلبية طلبات ممارسة الجنس مع زبائنها الكثر خوفاً على صحتها ، فيما تشير حكاية « مومو « الى أن أبيه كان قد قتل والدته بسبب امتناعها عن استقبال زبائنها .. و كان « مومو « في السادسة من عمره حين قُتلت والدته .
و نحن نشاهد فيلم ( الحياة المقبلة ) يبرز أمامنا سؤال و يظل يتنامى في أذهاننا طوال المشاهدة : هل نحن نتابع سيرة ( مدام روزا ) التي تقترب من المحطة الأخيرة من حياتها ، كما يوصلنا إليها الفيلم ؟ أم نحن نقرأ سيرة « صوفيا لورين « نفسها و هي في السادسة و الثمانين من عمرها و تجهد في أن تتحرك أمام الكاميرا متحدية ً الزمن لتقدم لنا شخصية تختلف عن جميع أدوارها طوال أكثر من نصف قرن ؟
لا يستطيع المشاهد المثقف أو المشاهد المتابع أن يتابع أحداث هذا الفيلم دون أن يتفرس في « صوفيا لورين « نفسها أكثر من متابعته لتصرفات و حركات « مدام روزا « ، ذلك أن « لورين « تحضر في هذا الفيلم بكل بهائها الجمالي و تاريخها السينمائي ، حتى ليبدو أن الفيلم يتحدث عن سيرتها هي و ليس سيرة « روزا « حين تطغى شخصية تلك الممثلة الجميلة الفارعة ذات الحضور السينمائي الذي اختصر الجمال الإيطالي في أنثى اسمها « صوفيا لورين « و هي الآن لا تسيطر سيطرة كاملة على حركة جسدها و لا تستطيع المشي دون الاستناد الى الحائط أو الى مسند ما و قد وهن هذا الجسد و قضمت الشيخوخة ملامح ذلك الجمال الصافي ليستقر أثره بين أخاديد تجاعيد تنبئ من لا يعرف « صوفيا لورين « أن هذه الممثلة كانت من أجمل جميلات القرن العشرين .
فيلم ( الحياة المقبلة ) ليس فيلماً إنسانياً حسب ، بل هو فيلم موجعٌ ، فيلمٌ مدروس بعناية من جميع جوانبه الأدبية و السينمائية ، فهل سيترشح لجائزة الأوسكار فيستعيد العالم صورة « صوفيا لورين « التي خطفت جائزة أوسكار أفضل ممثلة عام 1962 عن دورها الرئيس في فيلم ( امرأتان ) ؟