أ . د . نجاح هادي كبة
5 – وصف المكان :
يقول باشلار : ( ان تغوص في الماء , أو أن تتجول في الصحراء يعني تغيير المكان , وبتغييره , وبالتخلي عن مدركات الانسان العادية فأنه – الانسان – يتواصل مع المكان المجرد جسدياً , فلا في الصحراء ولا في قاع البحر , وتظل نفس منغلقة وغير مجزأة , ان هذا التغيير للمكان المحدد , لا يظل مجرد عملية عقلية … يمكن مقارنتها بوعي السببية الهندسية , لأننا لا نغيّر المكان , بل نغيّر طبيعتنا ) ” جماليات المكان , ترجمة : غالب هنا , 1980 , دار الجاحظ , وزارة الثقافة والاعلام , بغداد , ص : 230 .
والروائي كان دقيقا في وصف المكان فهو يربط الاحداث بالمكان لأنه – كما يبدو – يدرك ان المكان حيز حيوي يضفى على معاني الاحداث بعدا معرفياً وجمالياً فيكسب السرد عاطفة المتلقي , ولا بد من الاشارة الى أن الزمان يرتبط بالمكان من خلال الاحداث والامكنة التي سار عليها السرد وهي منطقة الشيخ عبد القادر الكيلاني ثم توسّع السارد طبولوجيا من خلال العلاقة بين عبد الغفور وسعاد ليضيف مناطق تجاوزت باب الشيخ في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية كالحارثية التي تملك سعاد حبيبة عبد الغفور ثم زوجته بيتاً حديثاً وما تعلق بهذا المكان من مطاعم كانت ملتقى عبد الغفور وسعاد .
أ – وصف منطقة باب الشيخ :
وعلى الرغم من تغيّر معالم بغداد وعمرانها في السنين الأخيرة ( صحيح ان معالمها القديمة قاومت بعضا من التأثير المباشر المخلّ بجمال عمرانها … لا سيما شارع الكفاح الذي اجتاحته عند محلة باب الشيخ تحديداً , محال بيع الدراجات الهوائية والبخارية وتصليحها , وتمّدد فضاءات المطاعم الصغيرة والكبيرة , ولا سيما مطاعم السمك الجري , حتى الارصفة ) ص : 11 .
ثم ينتقل القاص الى وصف البيوت القديمة : ( بيد ان أغلب الصور التي ظلت ماثلة وقاومت الذوبان هو الواقع العام لبيوت عقد الكرد , ولا سيما بيوت الازقة التي ظلت تلمع بطابوقها الاصفر كالذهب , حتى أبرمت عقداً مع نفسي بما أحتفظ بما لذاكرتي من صور قديمة , و ألا أعكّر مزاجي بالمنظر العام لهذا الشارع النفيس ) ص : 12 . ويلتصق السارد ويتماهى في وصف منطقة باب الشيخ ويربطها بحالة اجتماعية ( أنت تعرف ان في بيوتنا الصغيرة بأزقتها الظليلة ومتاهيها الكثيرة المنتشرة في كل مكان , ومحالها المكتظة بالناس , قد يصبح الموت هيناً في النهار , اذ لا فراغ لديك لتفكر فيه كما هو الامر في الليل ففي الليل انت وحدك , وان ثمة لك أطياف فمعها , وهذا هو ما يملأ بنوعه فراغ روحك يعذبك أويسعدك ) ص : 22 , وعبد الغفور رب الاسرة ( اغلب الظن ان تشبث بهذه الدار والمحلة جاء من ذلك , الأزقة الظليلة , الاسواق الكثيرة صغيرها وكبيرها , المقاهي الشعبية المنتشرة في كل شارع وزقاق , الشيخ بأضوائه التي لم تخفت وكثرة زواره , حركة الناس المكتظة التي كما لو تتحدى الموت والدمار الذي يحف ببغداد , وأخيرا أو أولا البيت بشناشيله الصامدة والوان زجاج شبابيكه البهيجة , وطرازه الشرقي , وكرمته التي تزين فضاءه … تستدعي لجسدك المغرور المزيد من دفئها اللذيذ ) ص : 22 .
ب – وصف المكان خارج منطقة باب الشيخ :
يتركز وصف المكان خارج منطقة باب الشيخ على سرد العلاقة بين عبد الغفور وسعاد , هذه العلاقة التي جعلت عبد الغفور رغم ثقافته يتطيع على أمكنة واجواء بعيدة في تفاصيلها عن منطقة باب الشيخ وعاداتها ولا سيما وان سعاد – كما سبق – تملك بيتاً في الحارثية التي يحيط بها أجواء مكانية كالمطاعم مثلا قد غيرت من طباع عبد الغفور وابعدته عن أسرته وعن حياته الشعبية السابقة التي كان يحن بها على امه المريضة ( مذ أكملت بناء بيتها في الحارثية , وسلمته نسخة من المفتاح , وقلبها يضرب على اليوم الذي سيصبح فيه عبد الغفور , أول من يدخله ) ص : 223 .
( مع اضطراب نفسي غير مريح وارتجاف في الأصابع طفيف استطاع ان ينفذ المفتاح في موضعه دون ما عناء كبير ويدخل البيت اعجبه منظر المزهريات الموزعة أسفل أبواب الغرف , والآخر المنتشرة في الاركان كأيقونات للترحيب , شمّ عطرها ممزوجا برائحة المواد التي نهض عليها البناء الحديث من حجارة واسمنت وجص وأصباغ … جلس لحظات على كرسي الى جوار سرير النوم المغطى بشرشف حرير أبيض موشّى الحاشية بزهور صفر تنبثق من أوراقها الغضة خيوط دقيقة صفر , ويفوح كما لو من بين أعطافها عطر بعيد ) ص : 224 .
استنتاج وتعقيب :
1 – لم تستند الرواية على التسلسل المنطقي في رسم الاحداث وانما تركت للمتلقي الاحاطة بالوحدة الموضوعية .
2 – اهتم الروائي بالجوانب الاجتماعية والوجدانية واطر أسبابها بالعوامل السياسية التي جاءت كأطار للاحداث ولم تنفذ الى صلب الموضوع .
3 – أشار الروائي الى تأثير الجانب العسكري الامريكي بشكل موجز في سرد الأحداث فيما يخص تدهور صحة ليلى زوجة عبد الغفور الأولى .
4 – تطرق الروائي بشكل موجز الى حالة السوق الاقتصادية وتدهور حالة الصناعة الوطنية نتيجة الاعتماد على المنتج الأجنبي .
5 – سلّط الضوء الثقافي على شخصية عبد الغفور ( الأب ) وان لديه مذكرات لكبار الادباء ولمح الى يساريته ومعارضته للانظمة القمعية ولعل ذلك ما قرّب علاقة الزواج بينه وبين ليلى زوجة الشيوعي الاولى الذي توفي وبقيت أخباره .
6 – اختيار الروائي لمنطقة باب الشيخ في سرد الاحداث يرجعنا الى التفكير ان التنظيم الماركسي قد اختار هذه المنطقة للاجتماعات في أول نشأته الذي ضم في صفوفه محمود أحمد السيد وعبد الفتاح ابراهيم وغيرهما .
7 – مثّلت علاقة عبد الغفور ” رب الاسرة ” ب سعاد , الزمن الصاعد في احداث السرد حتى النهاية وهو اقترانه بها زوجة , في حين مثّلت آمال ” الاخت ” الصوت الهابط ” اما صوت رأفت ” الاخ , فيلي صوت والده عبد الغفور في الصعود وهناك أصوات متقطعة الزمن لشخصيات أخرى .