في الثقافة الاجتماعية..
عباس عبد جاسم
رغم ان الجندر – Gender ، مصطلح غامض ومراوغ ومخاتل، ويتشاكل مع بنى جندرية أخرى كالجنس والجسد والهوية ، فانه ” مفهوم شامل ” ، لا ينحصر بالحركة النسوية ، وانما يتسع لاحتواء التمثلات – الاجتماعية والثقافية ، ويرتبط بحقول معرفية أخرى .
وإن كان الجندر قد ارتبط بحركات التحرر من الهيمنة الذكورية والأبوية ، وتحقيق المساواة ، وتوازن القوى الاجتماعية ؛ فهل يعني ذلك أن الجندر مفهوم أوسع من ” التنوير النسوي ” ؟
وإن كان كذلك ، فهل الجندر نسق اصطلاحي قابل للتعدد والتنوع الى ما لانهاية ؟
وإن كان كذلك أيضاً ؛ فهل الجندر مفهوم عابر للتخصّصات ؟
ومن ثم هل ظهر الجندر نتيجة ضرورة محرِّكة ودافعة لتغيير عوامل الإقصاء والتهميش والاستلاب في منظومة الأنظمة الأبوية والشمولية ؟
وقبل ذلك كّله : هل الجندر : مصطلح أم أداة تحليل أم منهج نسوي؟
قبل الاجابة . نوجِّه عناية القارئ الى ان ” الجندر ” مصطلح كوني ، ولكنه غير معولم بالكوكبية ، لهذا تُعنى هذه الورقة بـ ( مفهوم الجندر) بوصفه مفهوماً عابراً للتنوير النسوي .
لقد ترجم ( الجندر) الى ( النوع الاجتماعي) ، ولكن ( النوع الاجتماعي) أُستخدِم في علم الانثربولوجيا للاصطلاح على الفئات الاجتماعية والهويات الثقافية المختلفة ، ومن تمثيلاته الانثروبولوجية : التحيز الجنسي، والنظام الأمومي .
كما ان الطبقة والهوية والثقافة والتنمية وتمكين المرأة والتفاعلات الاجتماعية الأخرى تدخل في سياق هذا النوع ، وبذا فإن طاقة ” الجندر” الاصطلاحية أوسع من أن تستوعبها هذه الأنواع ، وخاصة بعد أن أصبح الجندر يتمحور في قضايا التماثل والمساواة والعدالة والعرق واللغة ، وخاصة بعد أن أخذ ” ينتقل بما هو شخصي وطبيعي الى ما هو عام وإشكالي ” ( النوع الاجتماعي وأبعاد تمكين المرأة في الوطن العربي/ مجموعة باحثين/ تحرير : أ. د رويدا المعايطة/ منظمة المرأة العربية / القاهرة / 2010/ ينظر: الخلفية الفكرية/ د . مصطفى كامل السيد و أ. رشا منصور/ ص 32 ) .
ورغم أن ” النوع الاجتماعي ” مصطلح يتوافق والبيئة العربية ، إلاّ اننا نميل الى استخدام مصطلح ” الجندر” ، ليس لأنه أكثر استجابة للتوطين في البيئة العربية ، وانما لأنه أكثر دينامية من ” النوع الاجتماعي ” في الفضاء التداولي ، بعد أن خضع لعملية تبيئ وتكثيف اصطلاحي ودلالي ، كما أنه يمتلك خاصية المفهوم المفتوح بأفق حيوي متحرِّك ، مستوعب لأي تجديد أو تغيير في البنى الجندرية المتحوِّلة .
ولعل ” آن أوكلي ” أوّل مَن حدّدت مفهوم النوع من وجهة نظر نسوية عام 1972 ، وقد ميّزت بين الجنس والنوع ، وخلصت الى ” ان النوع الاجتماعي هو بمثابة الجنس الاجتماعي ، انطلاقاً من قدرته على التغيير بحسب الزمان والمكان ” ( د . رشيد أوبي/ حلقات النوع الاجتماعي- الجندر ) .
ثم قامت جوديث بتلر بتفكيك ؛ العلاقة بين الجندر والجسد ، والعلاقة بين السيد والعبد الهيجلية في تصورات سيمون دي بوفوار في ” الجنس الآخر” ، حيث ذهبت الى ” إن إفتراض علاقة سببية أو محاكاتية بين الجنس والجندر واهنة ” ، ثم استنتجت بأن ” الجسد الأنثوي ( … ) ليس محلاً إعتباطياً لجندر المرأة ” ، ولم تكتفِ بنفي العلاقة بين الجنس والجندر من منظور بوفوار ، وانما ذهبت الى أن ” الجندر هو المعنى الثقافي والشكل الذي يكتسبه هذا الجسد ، والأنماط المتغيرة الناتجة عن تكييفه ثقافياً ” ( جوديث بتلر/ الجنس والجندر في الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار/ ترجمة : لجين اليماني) .
وقد يُصبح الجندر بدلالة ( جسد الانثى) حاضنة لبنى جندرية أخرى ، ولكن الجندر لا ينبنى على الشكل البيولوجي للجسد ، وانما على فكرة تأويل الشكل الثقافي للجسد كبنية ثقافية في بناء الذات .
لهذا لا يمكن ربط الجندر بالجنس ، لأن الجسد يختلف عن النوع ، وبذا فإن ” جسد المرأة ليس كافٍ لتعريفها كامرأة ” .
وان كانت سيمون دي بوفوار قد أسّست للجندر من منظور ديكارتي ، ومن ثم سارتري ، فإن الحداثة البعدية تجاوزت المنظور الوجودي ، وخاصة بعد أن أصبح ( الجنس/ الجسد) بنية جندرية خاضعة لوضع ثقافي واجتماعي .
كما ترجم مصطلح الجندر الى ” الجنوسة ” ، وهو مفهوم اجتماعي إرتبط بالجنس البيولوجي ، ويقوم على التمييز بين الذكورة والأنوثة إنطلاقاً من ” التحيز الجنوسي ” .
وتعتبر العالمة الأمريكية ليندا جين شيفرد ” ان الجنوسة أفضل من النوع ، لأن النوع كلمة فضفاضة ” ، بينا ذهبت ميليسا هاينز في كتابها ” جنوسة الدماغ ” الى استحالة التمييز بين الفروق الجنوسية والجنسية .
وان كانت ” جنوسة المرأة ” تمثل الجيل الرابع من الحركة النسوية العالمية ، التي تبلورت في التسعينيات من القرن الماضي في أمريكا ، فإن الجندر تبلور أكثر من الجنوسة في حقل النظرية النسوية ، وذلك من خلال التمييز بين الجنس والنوع ، وتخصّب أكثر من خلال تداخل الاختصاصات في تكوينه المعرفي .
كما يتميز الجندر في أنه مفهوم حيوي مفتوح على علوم معرفية أخرى ، مما كان أكثر شمولية من الجنوسة من حيث التعدد والتنوع ضمن سياقات ثقافية واجتماعية وجغرافية وتاريخية .
لقد دخل الجندر الفضاء المعرفي ليحل محل مفاهيم منها ؛ النسوية والجنسانية والجسدانية والمساواة وسياسات الهوية بين الرجل والمرأة .
وبذا لم يعد الجندر يمثل للنسويات ( اللاتي ينتمين الى( الحركة النسوية) أداة للتحليل فقط ، بل وأداة لتفكيك البنى المنتجة للتمييز، وقد مكنتهن بالفعل من خلخلة مفاهيم الأنوثة والذكورة ، وموقع المرأة داخل النظام الاجتماعي . ( ملاك الجهني/ القراءة الجندرية للقرآن ومآلات التسوّل الثقافي) .
ويمثل الجندر في نسوية الحداثة ” هوية ثقافية ” تعنى بالجنسية البيولوجية ضمناً، وفي نسوية وما بعد الحداثة ، يمثل بنية مركبة تركيبة ثقافية اجتماعية متعددة ، تتجاوز الحتمية البيولوجية .
وأكدت بروكس في كتابها ” ما بعد النسوية ، النسوية والنظرية الثقافية ” : ” ان ما بعد النسوية تضع التعدد محل الثنائية ، والتنوع محل الاتفاق ” حتى أصبح الحوار النسوي يتمحور حول ” التفكيك والاختلاف والهوية ” .
إذاً ، الجندر، مفهوم مفتوح متغيّر، أكثر استجابة لتطور أنساق الثقافات المتغّيرة بعناصرها المعنوية والمادية ، حيث يتحول من ثقافة الى أخرى ، ومن مجتمع الى آخر.
وقد تنبهت ملاك الجهني الى أن الجندر ؛ مفهوم عابر للثقافات ، وذلك بوصفه ” فكرة كونية مطلقة ” ، وهناك مَن يرى بأن هذه الفكرة تتعارض مع أصول الثقافة الغريبة القائلة بالنسبية والتاريخية ” ( ملاك الجهني/ القراءات الجندرية للقرآن/ مرجع سابق ) .
وهناك مَن ذهب الى أن الجندر يرتبط بالمركزية الغربية ، وإيديولوجية الهيمنة ، ممثلة بتسييس الجندر وعولمته قسراً عبر الاتفاقات .
إذاً ، الجندر مفهوم حيوي مركب من بنى جندرية متعدّدة ، قائمة على نظام ثقافي واجتماعي متجدّد ، يمتلك من عناصر القوة والتجديد والتحّول بما يجعله يتشكل بأفق أوسع من التنوير النسوي .