عباس عبد جاسم
غلاف الديوان
يتبنين ” الخطأ الفادح لهذا العالم ” للشاعر حيدر الفيحان * بإنتاج رسالة ترتبط برؤية قائمة على زحزحة مجازات اللغة الشعرية باللغة اليومية ، وشعرنة المسكوت عنه من خلال زعزعة أخلاقيات السياسة ، وذلك باستكناه ” الخطأ الفادح ” الناتج عن اختلال الواقع ، ومن ثم صوغه بدلالات حافة أكثر إحساسية بسقوط القيم وتفكّك العالم .
لهذا تنفك مركزية بؤرة النص الى نوى لامركزية تكتسب التضايف والتعالق بين الرؤية وانتاج الرسالة.
ثمة إذا ًرؤية تبدأ من أسفل القاع الى أعلى السطح ، لتعيد تشكيل العالم ، ليس وفق متاهات يوتوبية ما فوق الواقع ، وانما وفق شعرية أكثر تمثيلا ً لجماليات انتهاك الواقع بحساسية مباشرة صادمة للوعي القائم :
” كلما تطوّعت نسوة
لجهاد نكاح
أو انخرطن في زواجات متعة
أنتم الخطأ الفادح لهذا العالم .. ص 17
ولكن لم يكتف هذا الخطاب بالكشف عن تفاصيل ” الخطأ الفادح في العالم ” ، وانما يقوم بتفكيك شفراته المضمرة :
- صنع في الغرب
صنع بـ ( Expiry ) طويل الأمد
هذا الخطأ الفادح للعالم ” ص 18
وبإزاء هذا الكشف ، ومن ثم التفكيك :
هل من وظيفة النص – إنتاج الدلالة المفتوحة أم إنتاج الشفرة المغلقة ؟ وإلا ّ فما تعليل معنى هذه التورية الشعرية :
” لا أحبك
كثيرا ً أيّها الوطن
وأنا أتكسّر تحتك
بأقدام الأسئلة المرّة
أكاد أكره العراق
لأن الشرطة غير عاقلة
والمصلين يحرثون السمع بصلوات عاطلة ” ص 32 ، 33
ورغم ان اللغة ( هنا ) عادية ، بسيطة ، طبيعية ، فهي قائمة على استبدال مجازات اللغة بحقائق واقعية ، تنزاح فيها المعاني الى دلالات حافة مخصّبة بقوة المفاكهة السوداء .
ولكن هل يعني ذلك ، ان كتابة ” الخطأ الفادح .. ” كتابة يومية أم عادية أم تُعنى بتفاصيل الحياة اليومية ؟
قبل الاجابة . ينبغي ملاحظة ، ومن ثم معاينة ما تؤول إليه عناصر الرؤية وشفرات الرسالة من تعالقات نصية على مستوى جماليات النسيج الشعري .
إن شاعرا ً معارضا ً كـ ” الفيحان ” ، لم يكتف بـ ” كراهية الوطن ” حبا ً ، بل ويمقتُ حتى “الرئيس”:
” في حقيقة الأمر
أنا أمقتكَ أيّها الرئيس ” ص 40
هنا يتخذ أسم الرئيس ” استراتيجية معنى الجملة ، حيث ثمة رسالة – message تتضمن شفرة – Code ، وهذه الرسالة لا تستغني عن الغموض الشفاف ، وبذا فالرسالة تضمر شيئا ً لتقول شيئا ً آخر.
إذا ً ، مع ” الخطأ الفادح لهذا العالم ” ؛ لم يعد الشعر مجرّد لغة ، وانما رؤية للعالم أيضا ً، قد تشكل فيه ( المفردة ) مركز بؤرة النص ، وقد تكتفي القصيدة بإنتاج الدال من دون مدلول .
لهذا نلحظ ، بأن ثمة بنية مهيمنة لتكرر( المفردة ) بصيغة التكرار التوكيدي على وجه الخصوص ، وهو تكرار يحمل عنصر( ثبات) وعنصر ( انتهاك ) في حركة المعنى .
في نص ” لا للحروب كذلك لا للأسى ” نلحظ بأن الفعل ( تركوا ) مكرّر بدلالة مختلفة في ذاته :
” لقد كانوا أبناء مخلصين
تركوا أصابعهم وذكرياتهم
تركوا لعبهم وأشياءهم ” ص 51
ويتكرّر الفعل ( أخذت ) في نص ” حروب ” :
” أخذت كل شيء ورحلت ” ص 69
وفي تكرار ” أخذت ْ ” نوع من التوكيد على ( فكرة الاستلاب ) الناجمة عن الحروب ، التي أخذت الحياة من كل شيء ، ولم يبق سوى الموت بدلالات التلاشي والاختفاء والجفاف.
غير ان تكرار الفعل ” أخذت ” لم يأت بمعنى ان الحروب استلبت حيوات الناس وخرّبت البنى ومسخت الاشياء ، وانما بمعنى اقتفاء آثار الحروب ، وكيفية شعرنة الوعي المعذّب بها بدلالة الفعل ” أخذت ” ، وكيفية تنويع مستويات كل جملة من النص ، بحيث تبدأ منه من دون أن تنتهي به .
أما نص ” ندموا ” ، فهو أكثر النصوص بنية مهيمنة في التكرار المطوّل ، حيث تنبثق من الفعل ” ندموا ” تفاصيل الحياة اليومية والتاريخية في سيل جارف من الأشياء ، حيث تختلط فيها الأزمنة والأمكنة والشخصيات والأحداث من جهة ، وتختلط فيها الوثائق والوقائع والمدوّنات من جهة أخرى .
في هذا النص يتمازج الشعري ويتمفصل السردي في تمثيلات الرؤية للعالم ، فقد تكرّر الفعل ” ندموا ” أكثر من ثمانين مرة ، كدالّة على تأويل مُفرِط لـ ” الندم ” في سياق تآكل الذات والامة والعالم.
وينبني هذا النص على سردنة ” الخطأ الفادح لهذا العالم ” برؤية يتمازج فيها ويتمفصل العادي بالحياتي ، واليومي بالأبدي ، والآني بالتاريخي:
” ندموا لأن بابل تخرّبت / ندموا لأن هولاكو غزا العراق / ندموا لأن 1907 شاب قتلوا في سبايكر / ندموا لأن الدكتاتورية في الشرق اصبحت ضرورة ملحة / ندموا لأن البكاء ضعف / ندموا لأن الحب مذلّة / ندموا لأنهم لايجيدون الفرح / ندموا لأن المناخ سيء في أغلب الفصول ” . الصفحات : 28 ، 29 ، 31 ، 34.
ويتماهى الشاعر مع ” الخطأ الفادح لهذا العالم ” بما تبوح به الذات ، كما هو الحال في نص ” انتظار ” ، حيث نسيان الكائن ، وضياع الكينونة :
” – هل وصل الأصدقاء ؟
- ماهي أشكالهم ؟
- نسيت … ضاع مني الطريق وغابت
ملامحهم في الظلام ” . ص 79
ثمة ، إذا ً بساطة وعمق في تشكيل ( المفردة ) كبؤرة تنبثق عنها مستويات متعددة للجملة ، ففي مقطع (1) من نص ” موديل “، تنبثق شعرنة المفردة ( أرسمه ) في دلالة ذاتها من حيث موقعها من جمالية نسيج الرؤية ” ، وموقعها من سياق كل جملة من الجمل :
” الموديل الذي أحرسه من الهواء
من آيات تشبهه
أرسمه بالكتابة
أرسمه نائما ً ويتنفس
أرسمه لطبيعة مجرّدة ” . ص 83
وعلى الرغم من أن ” الخطأ الفادح لهذا العالم ” يتناسل من أفعال تتفكّك أو تتشظى ، وصولا ً الى حالات التلاشي ، فان دلالة المعنى واضحة غامضة أو بلغة المجاز ملتبسة ، ويمكن التمثيل لها بعينّات منها :
- ” كن معي ..
كي نقيس الظلام بالأصابع ” . ص 53
- ” ما أحلى أن تكون وحيدا ً
وأنتَ بصحبة أحدهم ” . 39
- ” أسمائي ليست شائعة
وأنا ضالع في الرفض ” . ص 33
وإن كانت هذه النصوص ، قد احتفت بـمآلات ” الخطأ الفادح .. ” بلغة يومية مألوفة ، فإن هذه العيّنات انتقلت على نحو مفارق من اللغة اليومية الى اللغة الشعرية ، وقد تحقّقت فيها حيازة جديدة على مستوى تحّولات الرؤية للشاعر ، غير ان هذه الحيازة ليست نوعا ًمن الإنشاء في اللغة ، وانما هي نوع من الانزياح في رؤية الذات للعالم .
ويمكن الاستدلال على تفاصيل الحياة اليومية من قاموس ” الخطأ الفادح .. ” :
” ساكني الصفيح / بائعي الكلا / الامشاط المصنوعة من النايلون المعاد / سيراميك صيني ردئ / الايجارات / الانفجارات / العاهرات / الحروب / المجندات / الحكومة / الكهرباء / المتظاهرين / رجال الدين / الجنود / العزاءات / الاصدقاء / مدنّا مخرّبة / أبناء مخلصين / أحلام الفقراء / سبايكر / شعراء المريد / عتيق للبيع / بابل / هولاكوا / المتوكل / المهجّرين / المصرف الحكومي / القتلة / … ” .
إذا ً ، هل ” الشعر ” هو ” الحياة ” التي ” لم يعشها ” الشاعر أم ان الشاعر عاش هذه ” الحياة ” و ” لم يكتبها ” ؟ ذلك هو الوجه الآخر من تفاصيل الحياة اليومية !!
—————–
*حيدر الفيحان / الخطأ ( الفادح لهذا العالم / شعر / دار الينابيع / دمشق / ط 1 / 2017 .