يمكن تفكيك غير القليل من طلاسم وهيروغليفيات المشهد العراقي الراهن، عندما نتعرف على ملامح وهوية الاعلام المهيمن فيه، لا نحتاج لمراجعة اعلام ما قبل زوال النظام المباد وتشتيت جهدنا واهتمامنا بحقبة اختزلت بشعار “اذا قال فلان.. قال العراق”، كي نركز اهتمامنا مع ورثة اسلابها فيما يعرف بمرحلة العدالة الانتقالية، ونوع التعددية التي هبطت على هذا الحقل الحيوي في حياة المجتمعات والدول (الاعلام). ما خلا عدد محدود جدا من المحاولات الفردية والتي سرعان ما تلاشى الكثير منها، لم تهبنا الاقدار العابرة للمحيطات اية محاولة جدية وواعدة لامتلاك اعلام مهني مستقل وشجاع. انها حقيقة لا يتناطح عليها كبشان كما كان يردد دائماً شيخنا الراحل خليل عبد الكريم، ومنها يمكن فهم كل هذا التيه والضياع في المشهد الذي يزداد عتمة والتباساً يوما بعد أخر. مع مثل هذا الضخ الواسع لهكذا منابر ووسائل ومنصات اعلامية، لا يمكن استغراب امتلاكنا لهذا الكم الهائل من الدقلات والمواقف والتحليلات البطرانة، والتي لم يقتصر نفوذها على بسطاء الناس وحسب، بل تلقف راياتها غير القليل من المنتسبين لنادي الانتلجينسيا، ليضعوا قسطهم في أوسع عملية لخداع المتلقي وتعطيل حواسه الطبيعية.
تعددية حقبة الفتح الديمقراطي المبين تم حوسمتها بين فسطاطين لا ثالث لهما؛ واجهات النظام المباد المستجدة والمتمترسة خلف عناوين المرحلة الجديدة وخطاباتها البراقة، وفسطاط ما يسمى باتحاد الاذاعات والفضائيات الاسلامية والذي تتم ادارته من وراء الحدود، ولا ننسى شبكة الاعلام العراقية الذي تتراقص امواجها وذبذباتها وفقا لايقاعات الصراع بين الفسطاطين، أما اعلام الاقليم فقد تم تطويبه لصالح الاقطاعيات السياسية والاسرية المهيمنة فيه، كما لم يسلم من مثل هذه الاصطفافات اعلام القوة العظمى التي تعهدت بتحويل العراق الى واحة للديمقراطية والحريات وحقوق الانسان؛ ليجد المتلقي نفسه فريسة ضخ للضجيج الاعلامي لا يزيده الا غرقاً وتشرذماً. مع مثل هذا المشهد الاعلامي ما الذي يمكن انتظاره من المتلقي أو صنيعة هذه الورش المتخصصة ببرمجة الذهنيات ونوع ردود الافعال، غير ما نشاهده من فزعات فاشوشية مثيرة للشفقة والأسى، وصولات مستجدة لنهش بعضنا للبعض الآخر تحت وابل كثيف من العناوين والمانشيتات الضخمة عن الحريات والكرامة والحقوق وغير ذلك من المسميات الماصخة.
مشهد يرتفع فيه صوت اللصوص والمرتزقة ومسوخ البشر؛ دفاعاً عن اجمل وافضل ما بالمثل العليا للبشر من حقوق وقيم، ما الذي يمكن أن يشير اليه، غير اننا قد انحدرنا الى مستويات من الحضيض تمت فيه استباحة آخر دفاعاتنا للبقاء على قيد البشر. لقد اتاحت لهم الهيمنة المطلقة لا على مؤسسات السلطة الرابعة التقليدية وحسب بل ما سطع نجمه من وسائل التواصل الحديثة، الفرصة لكي يحكموا قبضتهم على مسار الاحداث، حيث يتم دفعها بشكل ممنهج الى مسارب بعيدة كل البعد عما يتم ضخه من أوهام وتطلعات. عندما ينبري اللص والمشعوذ والقاتل لحمل راية التغيير والاصلاح والثورة، فان ذلك يؤشر بشكل جلي لوجود خطب ما، ومثل هذا الدهاء والخديعة والمكر ليس غريباً عما عرفه اسلافنا من قبل، لكن حال القشمرة والغيبوبة وما يرافقهما من استرخاء وغفلة؛ تجعل حالنا اشبه بمحنة زرقاء اليمامة التي لم يأخذ قومها تحذيرها على محمل الجد “اني ارى شجراً من خلفها بشر” ليتجرعوا ما لا ينفع بعده الحسرة والندم…
جمال جصاني