جمال جصاني
من يهتم بمتابعة مشهد عراق ما بعد “التغيير” يجد نفسه امام معضلة العجز المستدام، الذي لا يكف عن مرافقة اهل هذه البلاد، في التصدي لابسط تحديات مرحلة ما يفترض انها انتقالية صوب تأسيس دولة المؤسسات الحديثة، أو ما يسمى بـ “العدالة الانتقالية”. وفي مقالنا هذا سنركز على الكم الهائل من البطرنة في التعاطي مع المشهد الراهن، حيث يصر الكثيرون على اخضاع معادلات الوضع الراهن واصطفافاته وحاجاته الفعلية، لقوالب مساطرهم وديباجاتهم وتمنياتهم المسبقة. وهذا ما نجده في اجترارهم الواسع والممل للعناوين والمانشيتات الرنانة، من نسيج الوطن والمواطنة والحداثة والمدنية، وما يرافق ذلك من صرخات وسيل اللعنات الموجهة لـ “المحاصصة المقيتة” وغير ذلك من الفزعات التي “ما قتلت ذبابة”. ان محاولات القفز على معادلات واصطفافات واقع تأسس عبر تراكمات طويلة ومعقدة، لا يمت للحكمة والشجاعة والمسؤولية بصلة، فما يعرف بـ “المكونات” حقيقة موجودة ومحاولات الهروب منها، لن يفضي لغير تأجيل المواجهة لظرف تزداد فيه المعضلة تعقيدا وعسراً، ووجود المحاصصة التي تطمأن “المكونات” هي من مستلزمات المراحل الانتقالية ولا تستحق كل هذا الشتم واللعنات.
مثل هذه الآراء سيلتفت اليها المجترون لقات “البطرنة” بغضب، بعد أن علقوا على شماعة المحاصصة كل موبقات وآثام مرحلة الفتح الديمقراطي المبين. لكن كل ذلك لن يغير في مسار الهزائم والاخفاقات المتتالية شيئاً؛ ان لم تتم الاستدارة والانعطافة النوعية الى ما هجرناه من مواجهات وتحديات فعلية، وهو ما يشير اليه العنوان الذي وضعناه لمقالنا هذا؛ فقبل أن ترجموا “المكون” الآخر، عليكم الاهتمام بتنظيف اصطبلات “مكونكم” من كل ما يمت بصلة لفضلات مراحل العبودية والهوان والتمييز والتشرذم والاستبداد. فجميع “المكونات” عرباً كانوا أم كوردا ام تركماناً ام شيعة أو سنة وغير ذلك من شرنقات “الهويات القاتلة” ومن دون تمييز على اساس الرطانة والهلوسات والازياء؛ يهيمن عليها نوع من “الزعامات” و”الشيوخ” والمتنفذين والجماعات والرايات؛ تتحسس خناجرها وعسسها المتعددة الوظائف والاشكال، عند سماعها لاية دعوة او صرخة تنتصر حقا لما تم هدره من مستلزمات الحداثة وحقوق الانسان وحرياته، في وطن عرف على مر الزمان بتنوع ثقافاته وتقاليده وتعددية مذاهبه ومدارسه وافكاره.
ان استمرار وتجدد حملات رجم “المكونات” لبعضها البعض الآخر، وتحت شتى الذرائع الواهية والمميتة؛ يعني منح سلطة القتلة والمشعوذين واللصوص كل ما يحتاجونه للبقاء والتمدد والهيمنة على مقاليد الامور داخل “المكون” ومن ثم على حصته الفيدرالية. هم وكما كان الامر دائماً مع الانظمة المستبدة، لا يمكنهم الاستمرار في فرض هيمنتهم، من دون وجود “العدو الخارجي” ومع التفاتة بسيطة لما يجري حولنا، سنكتشف حجم الدهاء في هذه الخديعة القاتلة، المتخصصة في رعبلة المعايير والاولويات. وفي مثل ظروف العراق الحالية، يكون من الغباء البحث عن عدو “المكون” بعيدا عن “حرامي الدار” وحيتانها، أواقتفاء اثره عند “المكونات” الاخرى التي تشترك معهم بنفس البلاء والوباء. من دون هذه الاستدارة والانعطافة في هرم الهموم والاهتمامات، أي الشروع باطلاق عمليات التنظيف الداخلية، التي تشرع الابواب لنوع جديد من الملاكات والمفاهيم التي تنتصر لقيم الديمقراطية والكرامة والحريات، بعيدا عن “انصاف الآلهة” وشيوخ وزعامات المانيفست والسلالات الجديدة من قطاع الطرق؛ من الصعب انتظار ماهو منشود من نفق هذه المرحلة الانتقالية الملتبسة…