علوان السلمان
النص السردي، فن التخييل الممزوج بالواقع بكل موجوداته وسيلته اللغة وغايته استفزاز الذات الآخر ونبش خزانته الفكرية لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الناتجة من خلال التساؤلات التي ينتجها، باستدعائه المستهلك (المتلقي)لاستنطاق ما خلف مشاهده السردية المكتظة بتناقضاتها المتصارعة وهي تسبح في دائرة تتمتع بشموليتها وقدرتها على رصد العلاقات الاجتماعية بمعمارية تقوم على الفكرة المتفاعلة وبيئتها،الخالقة لفعلها الجمالي ضمن سياق حدثي يتفاعل بوعي مع حركة الواقع المتسارع بتحولاته لخلق سردية تهتم بمظاهر الخطاب اسلوبا وبناء ودلالة.
وباستحضار المجموعة القصصية(الرحلة العجيبة للسيد(ميم) التي انتجت عوالمها النصية ذهنية القاص محمد علوان جبر ونسجتها انامله باتقان واع، واسهمت دار نينوى في نشرها وانتشارها/2019..كونها تعكس هوية وطن من خلال الخيط الثقافي السيمي (سينما الخيام واطلس في بغداد وسينما الوطني في البصرة وسينما العلمين والحمراء في كركوك)..اضافة الى انها تقوم عل اكثر من مرتكز درامي وتيمة سردية معتمدة على البعد الاوتوبيوغرافي ـ السيري الذاتي ـ الذي يقوم على اقتناص الاحداث وبلورتها واحالتها من الواقعي الى الجمالي في اطار بنيتها السردية، فضلا عن توثيقها للفضاء الزمكاني وتحويل التاريخ الذاتي الى افق معرفي، ابتداء من العنوان الايقونة الدالة، المانحة للنص هويته التي حدد دورها(ليو هوك) في(الاستثارة والتنبيه والاختزال)..كونه العتبة الرئيسة لاستقراء عوالم النص واستجلاء مكامنه، والذي استل من احد العنوانات الفرعية التي تشكل(احد الملاحق النصية)على حد تعبير جيرار جنيت، المضافة للوحة الغلاف التجريدية الصامتة الرامزة لواقع احتجاجي واهداء مشروط ومخصوص بالوعي الصوري السيمي(الى سينمات منحتنا البهجة).
(قبل ان نقف قبالة القفص الفضي المطعم بالذهب رأيت الناس تدور حول المقام، توسلات بأصوات تتفاوت حدتها.. رأيت رجلا يشد جسده الهزيل من الخصر بخرقة في الشباك ولم يترك لجسده حرية ان يتحرك.. بل حنط جسده والصقه بالقفص الفضي حالما رايته لم استطع ان امنع نفسي من الضحك.. ضحكت بصوت سمعته امي التي صرخت في وجهي وهي تمسك فمي وتلويه بقوة كاد الدم ينفر من شفتي التي سلخ جلدها الرقيق غمغمت في وجهي وهي تشير ناحية القفص المذهب بنفس الجملة التي كانت تكررها: اذا فعلتها مرة اخرى سيلقيك الامام في بحر مليء بالثعابين والحيتان..) ص18..
فالنص تهيمن عليه الذاكرة التي تحول الرؤية البصرية الى رؤية قلبية لسلوك المنتج(السارد) بلغة التشظي فيحاول لملمة الجزئيات، مع توظيف سايكولوجية التواصل السردي الذي يجسد رؤية فكرية عميقة مجتمعيا يكشف عنها وعي مكتنز في ذاكرة المنتج(السارد) بحكم اتساع رؤاه واحساسه بالوجع الانساني الباحث عن منقذ، اضافة الى تركيزه على المكان بصفته بؤرة ثقافية وعنصر فاعل من العناصر المكونة للفضاء الحكائي..
(كنت اراقب النافذة بتركيز عجيب يتيح لمخيلتي تفاصيل اقترابها من النافذة والتصاقها بشباكها وتزيد من ضغطها عليها الامر الذي يؤدي لاقتراب نصفها العلوي من حافة النافذة، حينها اقف وانا اقترب من السياج الكونكريتي لنقطة الحراسة ولا اعلم كيف يمر الوقت كانت مخيلتي جاهزة لرسم تفاصيل جسد المرأة المتوحدة آخر الليل. شكل وجهها واستدارات نهديها الملتصقين بقوة بزجاج النافذة حينها يمر الوقت سريعا دون ان أحس به وهذا الامر يجعلني لا أوقظك تاركا اياك غارقا في نومك واحيانا يمر ثقيلا حينما اتخيلها قد ادارت ظهرها للنافذة ومضت بعيدا..أبقى انتظر.. وانتظر.. وتفشل مخيلتي في استحضارها قريبا من النافذة..)
فالسارد يشتغل على استقراء العواطف ورصد حالة التقارب الوجداني في سياق حسي مقترن بالحياة بكل موجوداتها الثنائية عبر ذهنية متحفزة تسعى لتقديم رؤية تلخص الواقع المأزوم ببوح وجداني ونزوع انساني، بتلاحق الصور القابضة عل لحظة الانفعال والشوق، مما يمكنه الانفتاح على تقنيات السرد السيري الذي يتطلب حضور المكان الحاضن لفعله وانفعالاته..
فالنص يعكس ذاكرة(الحب والحرب) باعتماد الحوار الذاتي المتميز بانعكاسات اللحظة والذوبان في مشهدية دينامية بعضها ذهني يسهم في توليد الصور المحفزة للذاكرة فيحقق البناء المشهدي موضوعيا بتتابع مختزل، متفرد بعمق المعنى والدلالة، عبر مسارات متنامية حاولت تأطير الحدث بأطر حكائية، مع تعاقب الافعال وانسيابها واسترسالها وانثيالاتها، فضلا عن اعتماد السارد بناء حكائيا متعدد التقنيات الفنية والاسلوبية منها الاسترجاع والتداعي والحوار الذاتي(الداخلي) الذي استغرق مساحة واسعة من السرد مسهما في الكشف عن اعماق الشخصية وتطوراتها النفسية..
(صوت صديقه حنون يقترب منه يمسح له وجهه بقطعة مبللة الممرض يدس الخرطوم تارة في فمه وتارة في أنفه وتتواصل الوخزات في ذراعيه اللتين كان يريد ان ينزع عنهما اشياء كثيرة ملتصقة بهما: البدلة اياكم ان تقتربوا منها فهي اصبحت مناسبة من اجل الاضواء والفضائيات..
ـ بسرعة النبض ضعيف..
ـ البدلة جائزة الاحلام الكبيرة..) ص36..
وبذلك قدمت الرحلة العجيبة للسيد (ميم) عوالما نصية معززة للواقع بأحداثه بلغة مجازية متكئة على المشاهد ذات الظلال المشبعة بالرمز المكاني والدلالة الموحية بأجوائها المحركة للحواس الشعورية لاكتنازها بعناصر بالإثارة والتشويق..