ابراهيم سبتي
تطرح القصة القصيرة الكثير من التساؤلات وهي تمخر عباب السرد وصولا الى تتمة الحدث الذي يرقبه المتلقي الذكي منذ اول السطور. فثمة حواجز ومراحل على السرد ان يعبرها ليسهل على القارئ فهم النص وتحليل شفراته انطلاقا من الكيفية التي يكتب السارد بها نصه وذكاء مخيلته في اختيار ثيماته . بين ثنايا اية قصة ، مطبات تعبيرية وربما فنية ، تمنح النص عنصر التشويق والمواصلة فتعطي زخما للمواصلة والمتابعة والتأثير وتجعل القصة المكتوبة بحرفة ومهارة ، ارثا فنيا لا يمكن تخطيه. في مجموعة القاص محمد علوان جبر الرحلة العجيبة للسيد ” ميم” ، حدث واحد لكنه يتفرع الى احداث ، وزمن واحد لكنه يتوزع بين ازمان متعددة ، ومكان واحد لكنه يصبح امكنة متغيرة ومتعددة . من هو السيد ” ميم” وكيف جرت الرحلة العجيبة له ؟ في المجموعة ، قصص تناولت ثيمات مبتكرة حرص القاص على اعتبارها ، رأس هرم المجموعة لأنها ” الثيمات ” منحت كل قصة لذة الدهشة وعنصر المفاجأة التي اكتست القصص والبستها عناصر الرغبة والتشويق. وكان لابد ان اقسّم القصص الواردة في الكتاب ،الى مجموعتين لكي نتعرف على خفايا السرد ومنطق الثيمات المستخدمة فيهما . ففي المجموعة الاولى قصص ( جائزة الاحلام الكبيرة ، فتاة النافذة الموصدة ، تدرجات لونية ، بندول الظهيرة ، قميص ازرق بنجوم كثيرة ، آذار بات بعيدا ، …. ) فيما ضمت المجموعة الثانية قصص ( الرحلة العجيبة للسيد ” ميم ” الطريق الى القرية ، الدخان ، الغرفة رقم 22 ، نصب الحرب الاولى …) . في المجموعة الاولى وجدت ان القاص يتحدث عن ما يمور في دواخلنا او في تفكيرنا وفي اعماقنا واهتماماتنا وبالتالي يؤدي كل نص الى المبتغى الذي يأمله صانعه للمتلقي الذي سيكون في حالة من الاسترخاء والانتشاء وهو يطالع ما مكتوب فيكون المتلقي جزءا مهما من الحدث. وربما اراد القاص اشراكه ليفتح مغاليق الثيمات ربما .. في المجموعة الثانية، انحياز عجيب للإبهار المغلف بثيمات غريبة وهي نوع من الابتكار الذي حرص القاص على ادامة زخم قصصه به . الملاحظ في هذه القصص ، الخيال المرتبط بالواقع الغرائبي وازمات الحروب المتلاحقة. ثمة استلاب فكري ونفسي وجسدي ، فحين يقف الجندي ـ الميت ـ الذي يظهر في احتفال القرية ويعتذر عن المجازر والموت والمعاناة التي سحقت القرية يرمز له القاص بالحروف الاولى ” م ع ج ” وهي تتماهى مع اسم القاص محمد علوان جبر نفسه . ولهذا تعبير عن فداحة الحروب التي سحقتنا و اذهبت اعمارنا في مهاو سحيقة غائرة في اعماق الخيبة . تتكلم الفتاة الغجرية نيابة عنه وتقرأ رسالته شديدة الاعتذار والندم حتى يقول بان ” الحرب ليس لها قلب ” وتندفع الانفعالات المصاحبة للرسالة التي تقرأها باسلوب الاغنية ، يتبين بان الناس ما عادت راغبة بأن تسمع عن الحرب بنفس الهوس والمشاعر ، انها مجرد آلة قتل واستباحة وخسارات متلاحقة .
في قصة ” الطريق الى القرية ” يضعنا القاص محمد علوان جبر امام ثلاث شخصيات تؤدي ادوارها المناطة لها بنجاح وتأثير هي : الرجل الطويل صاحب منصة الاحتفال والفتاة الغجرية التي لا تتوانى عن اسعاد الجمهور برقصة واغنية ثم تتلو رسالة الجندي، والجندي الذي اختفى فوجه في حفرة عميقة في اطراف القرية وهي ايحاء بأن الحرب تغيب لمدة ومن ثم تظهر بدليل ظهور الجندي الذي يقدم اعتذاره نيابة عن الفوج لأهالي القرية . انه الموت يتلبس هذا الشخص وهو يوغل بنبذ الحرب ولعنتها ويدعوهم لنسيانها . ثمة تحريك فني صعب وادارة مسيطر عليها من قبل القاص في صنع مشاهد القصة التي لا يمكن ان تُقرأ دون ان تترك ذكراها وتأثيرها لدى المتلقي المتعطش لهذا السيل من العواطف الجارفة والمعاني المخبأة بين ثنايا السطور. اما الرحلة العجيبة للسيد ” ميم ” فهي تركيب متداخل للحدث مصنوع بتقنية عالية ومبهرة واكثر قدرة على رسم معالم معقدة تبدو منذ للوهلة الاولى ، لكنها وبانثيال السرد الهادئ وتصاعد حدته، تتفكك الشفرات وتبدو الاحداث متماهية بحدث واحد . كيف لهذا الشخص ان يتخيل اشياءً حدثت منذ سنين ويسقطها على الراهن الفعلي ؟ انه مخزون الذاكرة الذي حفزّه القاص في شخصية البطل حين تتهاوى امامه سنوات الفجيعة التي كان مكبلا بها و لم يسيطر على هواجسه وانفعالاته وكابوسه المثير الذي ادخله في مأزق.
وهكذا وجدت ان اشتغالات الكاتب تنوعت في اظهار المغيّب والمسكوت عنه في السرد . وكانت القصص تتراقص وتتسابق لإظهار عفوية السرد دون تكلف ، فتتهادى منسابة وديعة بعيدة عن الصخب فنتلقفها بكل قناعة . والملاحظ ان القاص اشتغل وفق متطلبات الفطنة والذكاء في الكتابة ، حين جعل قصصه تنطق بالازمات والمكابدات والاستلابات والحب احيانا ، فجعل المتلقي يتخيل نفسه هو من يتحدث بدلا عن الشخصيات او يشارك فعلا في صنعها. ان مجموعة الرحلة العجيبة للسيد ” ميم ” مكتوبة بطريقة تجعلها تلتصق بالذاكرة ولا يمكن ان نتخطاها رغم كل ما نقرأ من كتب اخرى . صدرت عن دار نينوى في سوريا 2019 .