محمد زكي إبراهيم
أول ما تعلمته في صغري من علوم الجغرافية، وأول ما ألممت به من أرقام، أعداد السكان. أما أول ما كنت أسأل عنه، فهي عواصم الدول. كنت أعول في ذلك على كبار السن، من طلبة المتوسطة والثانوية، الذين يعرفون كل شئ، ولا يفوتهم في هذا العالم أي شئ!
لكنني حينما كبرت عرفت أن هذه هي المبادئ التي يفترض أن يلم بها كل إنسان. وأدركت أن كل فرد في هذه الدنيا يجب أن يلم بأخبار من يعيشون معه على ظهر هذا الكوكب. ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة من هؤلاء، وكيف يعيشون، وماذا ينتجون، وغير ذلك من أمور.
ليس هذا فحسب، بل إنني علمت ولو في وقت متأخر أن الاختلافات بين سكان المعمورة لا تقتصر على السحنات، أو الألوان، أو على ما في حوزتهم من تقنيات وأسلحة وطائرات. بل إن أهم مورد من موارد الاختلاف هو الثقافة. وفهمت أن الشعوب تمتاز عن بعضها البعض بطريقة النظر في الأمور، حتى ظهر من يسمي هذا الفارق جغرافية التفكير!
ومعنى هذا المفهوم أن آلية التفكير عند الجماعات البشرية تختلف من مكان لمكان، ومن بيئة لبيئة، ومن دولة لدولة. فهي ليست متماثلة لدى الجميع، وأن الاختلاف ناجم عن الأصول التاريخية والبيئية والاجتماعية، التي تتوارثها الأجيال، وتتشكل بها هويتها الخاصة.
ويضربون لذلك مثلاً في أن الأوربيين هم ورثة الحضارتين الإغريقية والرومانية، وأن اعتزازهم بهذا الانتماء، قوى لديهم النزعة الفردية، وجعلهم يشعرون أنهم مسؤولون عن حياتهم، وأنهم أحرار في خياراتهم.
أما الشرقيون فهم ورثة الحضارات الآسيوية القديمة، كالبوذية والكونفوشية والهندوسية، ذات الفلسفات الروحية والجماعية، التي تعتمد على الانسجام بين الفرد والطبقة. وهم لا يقيمون وزناً للحرية الشخصية إلا إذا كانت تصب في صالح الجماعة.
وما يهمني في هذه المعلومة، وهي مجرد تحليل يحتمل المبالغة والتهويل، أن هؤلاء يفكرون بطريقة أخرى. فالشرقيون يعبرون عن أفكارهم بوسائل شتى مثل التورية والإشارة والمجاز والإطالة وغير ذلك من أساليب البيان. في حين يوصل الغربيون أفكارهم بكلمات واضحة دقيقة!
بل إن البعض يرد هذا التباين إلى الفوارق اللغوية والثقافية. فاللغات الشرقية تفرض نمطاً من التفكير يختلف عن مثيلاتها الغربية. وبسبب ذلك يحتاج الشخص الذي ينقل النصوص إلى العربية مثلاً أن يزيد وينقص، ويرفع ويضع، ويلف ويدور، لأن مقتضى الحال يتطلب منه ذلك!
والحقيقة أن الاختلافات الثقافية هذه ليست سيئة أو شاذة، بل هي طبيعية وحتمية. وهي مظهر من مظاهر التوزيع الجغرافي للأفكار. وقد ساعدت على نمو اتجاهات سياسية وحضارية مغايرة في هذا العالم، كسرت احتكار الزعامات الإمبراطورية فيه.
علينا أن لا ننتقص من ثقافتنا أو ميولنا الروحية، وأن لا نلقي اللوم على تأريخنا وعقائدنا. فهناك ما هو أهم وأخطر من ذلك كله، وهو الجغرافية.