متخذا من الحوار مرتكزا له
كاظم مرشد السلوم
بعد اللون القرمزي .وأميستاد، يعود المخرج الشهير سلبيبرغ الى الدراما الاجتماعية ثانية، متناولا الفترة الاكثر حراجة في تاريخ الولايات المتحدة الاميركية مستعرضا حياة واحدا من اشهر رؤساءها، ابراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر في تاريخها، الرئيس الذي اندلعت الحرب الاهلية الاميركية في عهده، واعلان احد عشر ولاية انفصالها عن الولايات المتحدة ، وتشكيلها لكونفدرالية امريكية ،الامر الذي استدعى ان يخوض حربا شرسة ضدها ، وينتصر عليها ويعيد توحيد الولايات الاميركية مجددا ، ثم ليخوض مرحلة المطالبة بإلغاء قانون الرق وتحرير العبيد ،وإقرار التعديل 13 للدستور الذي يقضي بإلغاء العبودية .
سبيلبيرغ اختار الحوار مرتكزا لفيلمه، معتمدا عمق ودلالة هذا الحوار سلاحا راهن عليه طيلة وقت الفيلم، العمق والدلالة تجلى واضحا في مشهد خطاب الرئيس لنكولن الى الجماهير، ربما يكون درسا للرؤساء ممن يصدعون رؤوس شعوبهم بخطابات فضفاضة وفارغة، إلا من شعارات بالية.
لنكولن يرتقي منصة صغيرة جدا، وبجانبه سارية العمل الاميركي الذي لم يرفع عليها بعد، يخلع قبعته ليخرج منها ورقة صغيرة، يبدأ لنكولن خطابه قائلا ” يفترض بي اليوم ان ارفع علم الولايات هذا، وهذا سيحصل مالم تتعطل الالة التي تقوم برفعه، واذا ما رفعته فمن مسؤوليتكم ان تبقوه مرتفعا دائما، هذا هو خطابي “.
اي بلاغة وجزالة احتواها هذا الخطاب، واي تواضع هذا الذي يتسم به هذا الرئيس، وما حجم المسؤولية التي حملها للشعب من خلال القاء مسؤولية بقاء العلم مرتفعا الى الابد.
باستثناء المشهد الاستهلالي له وهو تصوير ساحة لمعركة الحرب الاهلية والقتال العنيف الذي يدور فيها ،وهو مشهد يذكر ببراعة سبيلبيرغ في صنع هكذا مشاهد ، خصوصا في فيلمه الشهير ” إنقاذ الجندي رايان ” ليس ثمة مشاهد خارجية كثيرة غيره ، وحتى في هذا المشهد ،ثمة حوار بالغ الاهمية يدور بين الرئيس لنكولن ، وبين ثلاثة من الجنود الزنوج ، الذين يخبرون الرئيس مدى معاناتهم من كونهم من ذوي البشرة السوداء ، هذا الحوار ، اوضح ماهية وتيمة الفيلم ، وهو الغاء قانون الرق .
ربما اشر البعض اعتراضا على الفيلم ووصفوه بالممل ، وهو امر ربما لا يقترب كثيرا من الدقة ، كون السرد الصوري المرتكز على الحوار ، تكون من أولى مهامه هي ايصال التيمة الاساسية للفيلم من خلال هذا الحوار ، وفيلم لنكولن ، يتحدث عن صراع بين قطبي السياسية الاميركية ، الحزب الجمهوري ، والحزب الديمقراطي ، ولا يمكن ان تنقل للمشاهد هذا الصراع ، إلا عن طريق الحوار ، لذلك جاءت المشاهد ، خصوصا في لحظات التصويت ، مفعمة بالحوار البليغ ، والساخر ، مع إشارة مهمة اوصلها سبيلبيرغ للمشاهد ، ان الحوار والاستماع الى الخصم مهما كان حديثه ، هو أس الديمقراطية التي يسعى اي نظام لترسيخها ، والاقتناع بوجهة نظر الطرف الاخر ليس بالمسألة المعيبة ، مادامت مصلح الامة هي الأهم ، لذلك نشاهد تصويت بعض الاعضاء الديمقراطيين الى جانب اقرار التعديل 13 ، القاض بإلغاء العبودية .
والمفارقة، انه وبسبب فيلم سبيلبيرغ هذا، فأن ولاية المسيبسي، اتخذت قرار بالتصديق على التعديل 13 للدستور، كونها لم تتمكن من اعلام مكتب التسجيل الاتحادي رسميا بذلك، حيث صدقت عليه في العام 1995، لكنها لم تعلم الحكومة الاتحادية بذلك رسميا، وتلقت الولاية اعلاما في السابع من فبراير 2013، من مكتب التسجيل الاتحادي بانه تم تسجيل التصديق، على تصديق الولاية بالإجماع عن التعديل 13 للدستور بعد 147 عاما على إقراره كقانون، والفضل يعود لاحد الاستاذة الذي شاهد الفيلم سبيلبيرغ واكتشف ذلك.
اختيار الممثل دانيال دي لويس لبطولة الفيلم وتجسيد شخصية الرئيس الاميركي ” لنكولن ” لم يأتي اعتباطا، فدانيال داي لويس، ممثل بمواصفات عالية وقل مثيلها، والذي يتذكر فيلمه المهم ” قدمي اليسرى ” يعرف مدى الامكانية الكبيرة التي يتوفر عليها ، ويقول عن دوره في هذا الفيلم لقد بكيت بشكل حقيقي فيه ، فأنا اتأثر وبشكل كبير في الشخصية التي امثلها . وفعلا فقد كانت الجائزة الاهم التي حققها الفيلم هي جائزة افضل ممثل، اضافة الى جائزة افضل اخراج فني ” اعلاني “.
دانيال داي لويس تماهى مع الدور بالقدر الذي يجعل المشاهد يشعر وكأنه امام شخص الرئيس الاميركي نفسه.
الاداء الرائع لم يقتصر على الممثل دانيال داي لويس، بل كان هناك الممثل المخضرم، تومي لي جونز، الذي ترك اثرا مهما في سينما هوليود من خلال عديد الافلام التي شارك فيها وان لم تكن مشاركته فيها كبطولة مطلقة، مثل فيلم ” مين ان بلاك، هوب سيرنجز، لا مكان للعجائز، بك تاون.
الاداء الرائع كان للمثلة سالي فيلد، عن دورها زوجة الرئيس لنكولن، وهي صاحبة جائزتي اوسكار عن فيلمي، أماكن في القلب، نورما ري، اضافة الى الحشد الكبير من الممثلين الاخرين.
ربما لا يحتاج سبيلبيرغ الى شهادة في كيفية تعامله مع عناصر اللغة السينمائية، وكيفية تطويعها لإيصال الرموز والدلالات المراد ايصالها للمتلقي، وان كان ذلك في فيلم حواري مثل فيلمه هذا
الاضاءة الخافتة التي تدلل على عتمة المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة الاميركية، كانت هي الغالبة على المشاهد الداخلية.
الفيلم توفر على مدير تصوير بارع هو يانوش كامنيسكي، فكانت حركة الكاميرا متناسقة تماما مع الحوار والجدل الكبير والذي يمتد على طول وقت الفيلم، وجاءت التقطيع الصوري للقطات والمشاهد، وفقا لرؤيا سبيلبيرغ وتنفيذ يانوش كامنيسكي ، كذلك كانت الموسيقى التصويرية ، غاية في الجمال ومتناغمة مع احداث الفيلم والتصاعد الدرامي لها ، ووضعها جون ويليامز .
واعتقد ان سيلبيرغ بإخراجه لفيلم من هذا النوع، يكون قد اضاف فيلما مهما لعديد افلامه السينمائية، والتي اثارت اعجاب المشاهدين في مختلف ارجاء العالم.